قصة قصيرة…(غصّة لاتزال في قلبي) للكاتبة نهال عبد الواحد

ما أجمل أن يسعدك نصيبك ويُكتب لك الحب!
والأجمل أن تجد الشخص الذي يحبك، يبادلك ذلك الشعور الرائع بالطريقة التي يرضاها الطرفين.

لكن أحيانًا نُخفق في اختياراتنا أو في طرق تعبيرنا عن ذلك الحب فيؤدي إلى فراق أو ألم لا نهائي كلما دق القلب.

هي فتاة بسيطة مثل أي فتاة نشأت في أسرة متوسطة على قدر من الجمال و الخُلق والدين.

تُدعى رحاب، ملامحها شرقية، بشرتها قمحية، عيناها بنية، يغطي حجابها شعرها البني.

كانت تدرس في إحدى الكليات النظرية فهي تدرس آداب علم نفس، لكن لم يكن لديها أي طموح أو هدف بعينه، تدرس كأداء واجب بطريقة روتينية، مثلها مثل غيرها من الفتيات.

كان كل تفكيرها وأحلامها مُنصَب أن تتزوج وتصبح زوجة وأم، كأن ذلك التعليم وكل تلك السنوات مجرد شكليات.

بالطبع لا أُسفِّه من تلك المهمة الجليلة للمرأة كونها زوجة وأم، لكن عليها أيضًا أن تهتم بدراستها، يكون لها طموح وهدف في الحياة.

وقبل أن تدخل في السنة النهائية في دراستها تقدّم لها شاب خاطبًا فوافقت عليه، حقيقةً هو لم يكن شابًا سيئًا ولا مستهترًا بل كان يعمل محاسب في إحدى الشركات، يستطيع تحمُّل نفقات و مسئولية الزواج مثله مثل غيره.

كان معتدل الهيئة ليس بالوسيم، لكنه كان مقبول، وجهه يميل للسمرة قليلًا، عيناه وشعره ذات لون أسود.

تمت خطبتهما، نسيت رحاب كل شيء وحتى دراستها أهملتها، لم يصبح لديها همًا سوى خطيبها هذا الذي أحبته على فجأة وبدون مقدمات، اجتاحها ذلك الشعور القوي الذي تغلغلها، صارت تصبح وتمسي لا تفكر إلا فيه، تعد الأيام حتى تصير زوجته.

بعد عدة أشهر من الخطبة والعمل في إعداد بيت الزوجية وما إلى ذلك من التفاصيل المعتادة تم الزواج.

بدايةً قد اتفق معها على تأجيل أمر الإنجاب لأَجَل غير مسمى، فهما لازالا في بداية حياتهما، يلزمهما من النضج بالشكل الذي يجعلهما يتمكنان من تحمل مسئولية وجود أطفال، وأيضًا يحتاجان وقتًا كافيًا لتنسجم طباعهما معًا.

ربما يبدو ذلك الطلب منطقيًا لدى البعض خاصةً مع إرتفاع نسب الطلاق، لألا يكون هناك أبناء مظلومين ليس لهم ذنب سوى عدم قدرة والديهم على تحمل مسئولية الزواج والأبناء.

وافقت رحاب على طلبه ذلك، بل كانت لا ترفض له أي طلب مهما كان، عاشت حياتها معه وكل يوم تحبه أكثر من اليوم السابق له، تتفانى أكثر وأكثر، تقدم كل يوم مزيد من التنازلات لتضمن رضاه عنها وتضمن زيادة حبه لها.

وبعد تنازلها عن أمر الإنجاب حتى أنها لم تكن تفاتحه وتطلبه منه، كانت كل أمور حياتها هكذا مجرد كلمة منه صارت أمرًا منزّلًا بلا حوار، لا مناقشة، لا شورى وليس لها أي رأي في أي شيء.

تركت دراستها تمامًا رغم عدم وجود ما يشغلها للدرجة، اكتفت أنها قد تزوجت فلن تحتاج لتلك الشهادة يومًا ما.

كانت تخشى أن تغضبه لأي سبب، كانت تستحي أن تطلب أي شيء منه حتى لو كانت ضروريات تحتاجها فكانت تنتظر أن يحضره لها من تلقاء نفسه.

كان الجميع ممن حولها من الأهل والأصدقاء يحذرونها من طريقتها تلك؛ فليس هذا بحب، هناك فارق بين التضحية والتنازل وهو ليس بحاجة للتنازل ولا لتلك الطريقة من التعبير عن الحب.

لكنها كانت لا تنصت لأي نصيحة، ترفض كل ما يُقال لها فهي سعيدة بذلك الحب وبحياتها معه لدرجة أنها ابتعدت عن الجميع، ظنت أنها بذلك تحافظ على بيتها و زوجها من وساوسهم لها كما وصفتها ورأت أنهم يريدون إفساد حياتها.

مرت الأعوام عامًا بعد عام، بدأت تفقد والديها واحدًا بعد الآخر حيث وافتهم المنية، لله الملك و الدوام! لم يعد لديها سوى زوجها هذا، حبها الأول والوحيد، ازداد تعلقها به وذلك العشق الأرعن.

أما عن زوجها فقد تحسّنت أحواله كثيرًا سواء المادية أو منصبه في العمل، لكن استمر وضعهما معًا كما هو، ظلا بلا أولاد، كأنه قد نسى أمر الإنجاب تمامًا.

ذات ليلة بينما كان الزوجان نائمان إذ أقلقهما رنين هاتف الزوج في منتصف الليل، نظر الزوج إلى رقم المتصل، وجم، تردد وفي النهاية اضطر ليجيب.

فقال: مرحبًا! ماذا؟! استعدي وسأحضر فورًا!

ثم نهض مسرعًا يبدل ملابسه دون أن ينطق بكلمة واحدة تفسّر سر هذه المكالمة ولأين هو ذاهب الآن؟! بل لم يلتفت أصلًا لهذه المصدومة التي تكاد لا تصدق ذلك الشعور القوي الذي غزاها فجأة!

خرج الزوج مهرولًا وهي تكاد متجمدة في مكانها لا تتحرك منذ ساعات حتى اليوم التالي وقت الظهيرة أو بعدها عندما عاد الزوج وهو منهكًا، مرهقًا ليجدها هكذا بذلك الوضع.

جلس أمامها يفكر فيما سيقوله وبعد صمتٍ طويل وهي مسلطة ناظريها نحوه تنتظره يتحدث.

قالت: ألم يأن لك أن تقول ماذا يجري؟!

فتردد قليلًا ثم أجاب بتردد: إن ذلك الإتصال الذي كان بالأمس… كان… كان… كان من زوجتي، وقد حضرتها آلام المخاض وهي بمفردها، وقد وضعت طفلها بحمد الله!

نظرت نحوه نظرة طويلة بصدمة كبيرة، ثم لملمت شتاتها وقالت بإنكسار: الحمد لله! وأنا! أين أنا من حياتك؟! أنا من أحببتك كل ذلك الحب، لقد صرت هوائي الذي أتنفسه فلا يمكن أن أحيا بدونه، دمي الذي يجري في شرايني، فلا حياة لي إن ذهب، لقد كنتُ لك كخاتم سليمان كل ما تطلبه مطاع، لقد تركت كل شيء،ألقيت بكل شيء خلف ظهري حتى دراستي ومستقبلي! تركته من أجلك لأكون معك وجوارك دائمًا لا يشغلني أي شاغل عنك مهما كان.

فأجاب باستياء: وأنا لم أطلب منكِ كل هذا، لم أحتاج لامرأة تتفانى من أجلي، إمرأة عديمة الشخصية والكيان والطموح.

صاحت بقهر: وماذا عن أمومتي التي حرمتني منها؟!

– أنا لم أجبرك، فقط اتفقت معك وأنتِ قبلتي دون نقاش، ودون أي سؤال عن مدة ذلك التأجيل! حتى لما طال الوقت لم تفاتحيني في الأمر يومًا! بل أنتِ لم تفاتحيني في أي أمرٍ طوال حياتك! منذ أن عرفتك وأنتِ توافقي على كل ما أقوله بلا تفكير ولا نقاش.

–  أحببتك و وثقت فيك، رأيت أننا شخصًا واحدًا…

– بل اثنين.

– أجل! قد أيقنت الآن أننا اثنين.

– إذن فكري ماذا تنتوين فعله وأنا سأنفذ لك ما تريدين، ودعيني الآن؛ أحتاج للراحة والنوم حتى أعود لزوجتي وابني؛ فسيخرجان من المشفى في المساء.

وتركها وذهب يبدل ملابسه ثم نام، لم يكن الأمر بهذه البساطة، أن تفكر وتقرر بتلك السرعة، فهي لازالت تحت تأثير الصدمة! و ليست كأي صدمة بل صدمة عمرها!

لقد أيقنت الآن فقط أنها قد أضاعت من عمرها بلا فائدة، أنها كانت مخطئة، أن كل من حولها كانوا على حق، كانوا يقدمون لها النصيحة الصائبة، لم يكونوا يريدون لها الخراب وإفساد حياتها كما ظنت من قبل.

لكن ماذا تفعل؟ ولأين تذهب؟!

لقد ذهب الأهل لدار الحق فلم يكن لها سوى هو، تُرى هل تستطيع الذهاب أصلًا؟
هل تستطيع التخلص من قيد عشقه الذي قيّدت نفسها به منذ سنوات؟
وإن إستطاعت التخلص من قيد ذلك العشق، فكيف لها أن تعيش بمفردها وبدون عائل؟ فهي حتى لم تكمل دراستها بالتالي كيف لها أن تعمل وتتكفل حتى بنفسها؟

لكنها لازالت لا تقوى على إتخاذ قرار، لازالت تعشقه بجنون ولا تقوى على البعد، لكن كرامتها وكبرياءها يؤلماها بشدة فبعد انكشاف أمر زواج زوجها بأخرى صار أكثر حرية وأريحية في الذهاب لتلك الزوجة وذلك الوليد والبقاء معهما فلم يعد هناك ما يخفيه.

دائمًا يكون الوجع بقدر المحبة، فكلما كان الجرح من حبيب كلما كان أشد ألمًا وأصعب إلتئامًا.

صارت فجأة وحدها وسط تلك الصدمة التي طرحتها أرضًا، بل تحت الأرض،  فقدت حبها الوحيد، فقدت حياتها، إذن لا داعي لتلك الحياة.

لقد كانت تدير حياتها بشكل خاطيء ومهما قُدّمت لها النصيحة لم تتقبلها و رفضتها وكان يلزمها التغيير.

لكن أصعب التغيير ما يكون عندما تُجبر عليه بفعل صدمة، فهاهي سُنّة الحياة تُعلّم كلًا منا بالطريقة المناسبة له، وهناك من لا يتعلم سوى بالصدمات القوية!

لكنها لازالت تنكر ما حدث، ترفض ذلك الواقع، تنعزل عن كل شيء تحاول أن تكرهه، تلومه على مافعله معها وتضع كل الخطأ عليه.

ثم بدأت تدرك أنها هي أيضًا مخطئة، بدأت تلوم نفسها لكن لدرجة حولتها لكائن مُحبَط.

جلست أيامًا وليالي تمتنع عن الطعام، تنتظر الموت يأتيها لكنه لم يأتي بعد، قد ذهب بها إحباطها لدرجة أنها بدأت تُفكر في إيذاء نفسها، التخلص من حياتها مادام الموت لم يأتي بعد.

لقد فقدت إتزانها، قيمها وكل معاني من حولها، لكن دائمًا كما نعلم أن لله لطفًا في ابتلاءاته، فلا يبتلينا أبدًا فوق طاقتنا، لكن ربما نظن وقتها أنها نهاية العالم  إلى أن يظهر بصيص الأمل وبداية الصعود.

ذات يوم بينما قررت فجأة أن تفتح التلفاز، أخذت تدير بين القنوات حتى وجدت برنامج معين فتركته تشاهده رغم أنها لم تكن تتابعه إطلاقًا من قبل.

لكن الله مسبب الأسباب يسوقها إليك بدون سبب ولا مبرر فتفعلها لأن خلفها فتحٌ كبير.

كان مقدّم البرنامج يتحدث عن لحظة اليأس عندما تصيب الإنسان وكيف يتعامل معها ولا يجعلها تفتك به، وأن الشخص الفاشل ليس من يسقط بل من يستسلم للسقوط دون أي محاولة لينهض من جديد ويترك نفسه فريسة ليأسه وخيباته.

فكانت تلك الكلمات نقطة تحول لها لتبدأ تعيد حساباتها، تتقبل الواقع، تعدّل من نفسها لتكمل حياتها.

بدأت رحاب مرحلة جديدة من حياتها مرحلة الصعود، والتي بدأتها بإستكمال دراستها التي أهملتها، بدأت تسأل عن كيفية إعادة قيدها في الكلية مرة أخرى، خاصةً وأنها قد غفلت عن سحب أوراقها من الكلية ولم تمر الفترة التي بعدها يتم إعدام تلك الأوراق.

بالفعل أعادت قيدها، أتمت دراسة السنة المتبقية التي أهملتها وتزوجت، لكن لازال لديها شغف للمزيد من التعلم.

بدأت في المزيد من الدراسات والأبحاث، حصلت على عدة دبلومات في البداية، ثم درست وحصلت على درجة الماجستير، من بعدها درجة الدكتوراه، لازالت تبحث وترتقي في الدرجات العلمية ولم تكتفي بها من جامعتها فحسب، بل أيضًا من جامعات أخرى، بدأت تحصل على مناصب ودرجات علمية شرفية.

كم أسعدها ذلك كثيرًا فكلما زاد النجاح زادت السعادة فدفعتها لمزيد من الإجتهاد، لمزيد من النجاح، ومن ثم مزيد من السعادة.

مرت أعوام وهي تعيش نجاحاتها تلك لكنها لم تقطع صفحة الماضي، لازالت تلقي عليها نظرة من حينٍ لآخر وتنقد تصرفاتها القديمة.

لكن وسط تلك النظرة ونقد التصرفات تتكون غصّة بداخل قلبها لازالت تؤلمها كلما دقَّ بعد ما كان ذلك القلب يدق فقط بحبه.

وذات يوم قررت أن تفعل شيئًا ما أكثر نفعًا وإيجابية من مجرد نقد تصرفاتها القديمة.

أحضرت كاميرا فيديو، قررت صنع مقطع فيديو صغير تتحدث فيه عن العلاقات المختلفة بين الأفراد بمختلف ماهيتها وعلاقة الفرد بنفسه.

وقد تحدّثت بطريقة سلسة وبسيطة بعيدًا عن التعقيدات السيكولوجية وغلاظة المصطلحات.

ثم قامت بنشر ذلك المقطع من الفيديو في وسائل التواصل الإجتماعي المتعددة، لكنها تفاجئت بالإقبال و إرتفاع نسبة المشاهدات، بل و وصول الكثير من الأسئلة والإستفسارات لها حول ذلك الموضوع وبعض الموضوعات المتعلقة بالعلاقات.

كان ذلك في حد ذاته نجاح لها قد دفعها لتصوير العديد من مقاطع الفيديو في مواعيد محددة بمعدل مقطع أسبوعيًا.

في كل مقطع تناقش جزء جديد فيه إجابة لأحد الأسئلة والتي أحيانًا تتكرر أو تكون متعددة الصور لكنها تتفق في نفس الإجابة.

كانت مدة المقطع لا تتجاوز الخمسة عشر دقيقة، رغم معلوماتها الدقيقة ذات خلفية علمية سليمة، لكن لم تغفل عن أخطاءها في حياتها الشخصية، صارت تجربتها نصب أعينها دائمًا، تعيد شريط ذاكرتها، تتفحصها، تستخرج أخطاءها وما الذي كان يتوجب عليها فعله.

صارت تتصدر حلقاتها موضوعات عن لغات الحب، كيفية التعبير عن الحب بطرق متعددة و أن الأفضل أن تعرف اللغة التي يفضلها الطرف الثاني حتى يصله حبك.

فالمهم أن تعبر عن حبك باللغة التي يفهمها الطرف الآخر ربما يفهم بطريقة واحدة، ربما بأكثر المهم أن تصله الرسالة سليمة ومفهومة وفي الوقت المناسب.

من وقتها وقد صارت تعمل كأخصائية واستشارية في العلاقات المختلفة وإدارتها، صارت هي من تقدم النصائح المختلفة لكل العاشقين و المتزوجين، ممن يلجؤن إليها لتقرّب المسافات بينهما وترشدهما معًا لما عليهم فعله للحفاظ على ذلك الحب ونموه أكثر وأكثر.

وهكذا صارت تلك التجربة المريرة هي نقطة انطلاق لها في حياتها وبداية جديدة، لكنها لازالت لم تتخلص بعد من حبها الأول والوحيد فلازال كائنًا بقلبها مع وجود فارق خطير….

كلما دق قلبها بحبه ضغطت تلك الغصّة التي تكونت بداخله فآلمتها أكثر وأكثر.

بعد فترة من الزمن وقد ذاع سيط رحاب بين وسائل التواصل الإجتماعي و وسائل الإعلام، كم صارت متكلمة، لبقة وإنسانة ناجحة! عاد إليها ذلك الزوج يطلب منها السماح والعودة، وأنها الآن صارت الزوجة التي كثيرًا ما تمناها، ولا مانع في عودتهما خاصةً مع تأكده من إستمرار حبها له.

لكنها رفضت رفضًا قاطعًا قائلة: أعتذر منك، فقد اعتادت أن أكون بمفردي، حتى في أسوأ حالاتي كنت بمفردي، وفي أصعب ظروفي كنت بمفردي، وقد اجتزت كل الصعاب والمشاكل و المحن بمفردي، فإن كنتُ بمفردي طوال ذلك الوقت فلم أعد بحاجة إليك الآن بعد تخلصي من كل ذلك.

فأجابها بندم: وأين ذهب كل حبك وإحساسك بي؟! هل انتهى بتلك السهولة؟!

أردفت بثقة:  لا لم ينتهي بعد!
لكن كلما دقَّ قلبي شعرت بتلك الغصّة التي لازالت في قلبي تؤلمني…

تمت♥️

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان