قصة “أوراق اللعب ” من بطولات المخابرات المصرية
اللواء الأخبارية
مع وفاة الزعيم جمال عبد الناصر وتولى السادات مقاليد الحكم فى مصر ، بدت الأمور هادئة تماما واعتقد الجميع ان حالة اللا حرب و اللا سلم ، ستدوم للأبد وخاصة مع هدوء السادات الظاهري وإيحاءه للجميع بأنه لا يستطيع ان يدخل فى حرب جديدة مع الكيان الصهيوني ، وخلف كل هذا كانت الأمور مختلفة تماما لقد كانت كل أجهزة الدولة فى حالة استنفار عام استعدادا لمعركة المصير …ومن بين تلك الأجهزة كان جهاز المخابرات العامة المصرية الذى انطلق رجاله فى كل أركان الدنيا ليصنعوا اكبر شبكة معلومات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ، ولتتوالى العمليات الناجحة لهذا الجهاز الاسطورى على نحو أدهش العدو قبل الصديق .
وفى تلك الفترة الحرجة صدرت أوامر جديدة بمهمة خاصة للمخابرات المصرية ، وهى الحصول على شفرة الدفاع الجوى الاسرائيلى ..وعلى الرغم من صعوبة المهمة بل واستحالتها ، إلا ان رجال المخابرات كالعادة عقدوا اجتمعا فوريا لبحث الطريقة المثلى للحصول على هذا السر الحربي الخطير والذي سوف يكفل لنسور الطيران المصري التجول بحرية وتنفيذ المهام
الخاصة بهم عندما تأتى ساعة الحسم دون ان تستطيع أنظمة الدفاع الجوى
الاسرائيلى اعتراضهم ..
وكأجراء تقليدي راح الجميع يراجعون كل ما لديهم عن نظام
الدفاع الجوى الاسرائيلى من ناحية أساليبه و أسلحته وقادته وجنوده ..وكل شيء
ولكل نقطة من النقاط السابقة كانت هناك عشرات من الملفات والمعلومات التي جمعها الرجال فى شهور عديدة !!!
وبمنتهى الصبر راح الرجال يراجعون كل الملفات والمعلومات مهما بدت صغيرة، وبعد أسبوع كامل من المناقشات اتفق الجميع على ان الطريقة الوحيدة لمعرفة الشفرة المطلوبة ستكون من خلال الرجل المسئول عنها مباشرة ، الجنرال ( ايزاك رابينوفيتش) وهو من اليهود الروس الذين كانوا أول من هاجر الى فلسطين قبل حرب 1948م وإعلان قيام دولة إسرائيل التى التحق بأول جيش لها وأخذ يترقى فى المناصب حتى حصل على رتبة جنرال بعد حرب يونيو 1967 ….
وعلى الرغم من جنسيته الروسية لم يكن رابينوفيتش يحمل اى ملامح روسية على الإطلاق بل كان يبدو مثل اليهود الشرقيين اسمر البشرة والشعر ثم انه كان يعشق المال أكثر مما يعشق اى شيء فى الدنيا كلها والعجيب انه على الرغم من عشقه الشديد للمال والادخار والبخل اليهودي الشديد الذى يشتهر به بين زملائه ورجاله ، إلا انه كان لاستطيع مقاومة لعب الورق ( القمار ) فى أمسيات السبت وكان يفرح كثيرا عندما يكسب ويكاد يبكى فى
حالة الخسارة حتى لو كانت مبالغ صغيرة، وكان عشقه للعب الورق نقطة ضعف واضحة لم يلتفت إليها قادة إسرائيل لمعرفتهم بولاء رابينوفيتش الشديد لإسرائيل ..
وحار رجال المخابرات فى كيفية الاستفادة من نقطة الضعف هذه للحصول على السر المنشود …..5
حتى وصلتهم معلومة عن طريق التحريات الدقيقة ان الجنرال رابينوفيتش يحتفظ بنسخة من كل الوثائق السرية جدا فى خزينة منيعة مخفية بمهارة داخل منزله ، ولا احد يعلم مكان تلك الخزينة حتى زوجته نفسها..ولأن اى عملية اقتحام كانت مرفوضة تماما نظرا لان الأسرار تفقد أهميتها إذا ما أدرك الخصم انك حصلت عليها….
فقد كان من الضروري البحث عن وسيلة عبقرية للوصول الى منزل الجنرال والبحث عن الخزينة وفتحها والحصول على الوثائق دون ان يشعر الجنرال ان ذلك قد حدث !!
وهنا جاءت الفكرة العبقرية واقترح الرجال ان ينفذ العملية شخص من داخل إسرائيل حتى يحوز ثقة الجنرال بسرعة وسهولة ، ووقع اختيار الرجال على احد عملاء الجهاز داخل إسرائيل وهو رجل اعمل اسرائيلى يدعى ( دافيد باراهودا ) وكان قد هاجر الى إسرائيل وكره تلك الحياة الاستبدادية داخله لتتلقفه يد المخابرات المصرية ليعمل لحسابها بمنتهى الإخلاص منذ أوائل عام 1970 ، وبدأت العملية فى شتاء عام 1972م …عندما سافر دافيد الى باريس بناء على برقية شفرية من المخابرات المصرية ، وهناك التقى برجل المخابرات امجد وعدد أخر من الرجال بينهم خبير فى العاب الورق والذي
راح يدربه على ابرع حيلها وأدق أسرارها . وفى النهاية عاد دافيد الى تل أبيب بصحبة رجل أعمال فرنسي يحمل جواز سفر سليما باسم ( فرانسوا مولييه ) ويهوى أيضا لعب الورق..
وبعد فترة قصيرة كان فريق دافيد وفرانسوا قد اشتهر بالبراعة فى هذا المضمار وعقد عددا من الصداقات مع من يمارسون اللعب فى أمسيات السبت حتى قام احدهم بتقديم دافيد و فرنسوا الى الجنرال رابينوفيتش باعتبارهما هواة لعب الورق بنفس الحذر والمبالغ الصغيرة التي يهوى هو اللعب بها. وكان من الطبيعي ان يقبل رابينوفيتش بلعب دورة واحدة مع اللاعبين الجدد كنوع من الحذر ولقد قامر بمبلغ صغير
جدا خشية الخسارة… الا انه ربح هذه المرة وفى المرة الثانية والرابعة والسابعة !!!
ربح ثلاث دورات لأول مرة فى حياته حتى انه نسى وقاره و أجراءته الأمنية المعتادة وراح يصرخ من الفرحة واستمر فى اللعب وربح مجددا ، وفى نهاية السهرة أصر على ان يلتقي بالثنائي مرة أخرى فى السبت التالي وكل سبت ….
ومع توالى الأسابيع والربح أدمن الرجل اللعبة وصار يسهر حتى منتصف الليل على طاولة اللعب كما لم يفعل من قبل ، وبدأ يتعامل مع دافيد وفرانسوا كصديقين حميمين خاصة أنهما كانا يتقبلان الخسارة بنفس صافية ودون غضب.. والواقع ان الرجلين كانا يلعبان ببراعة ليس لها مثيل ليخسرا دورة من كل دورتين تقريبا لحساب الجنرال الذى انبهر بالأرباح وأصبح يعتبر اللعب لأول مرة فى حياته وسيلة شبه منتظمة للربح ، حتى كان ذلك اليوم فى بداية صيف عام 1973 م ، يومها كان كل شيء يسير كالمعتاد والجنرال يكسب ويحصى أرباحه من أمسية اليوم، حتى حدثت تلك المشاجرة بين الفرنسي ونادل صالة اللعب , وتطور الشجار بسرعة لينتهي بالفرنسي خارجا من المقهى وهو يقسم بأرواح أبائه وأجداده انه لن يدخل هذا المكان مرة أخرى ، ولأنه ضيفا على دافيد فقد خرج معه وهو يحاول تهدئته بينما كان الجنرال يبذل قصارى جهده لتهدئة الموقف الاستكمال أرباح الليلة التي اعتاد عليها، وغادر الجنرال وهو غاضب وهو يمنى النفس باستكمال الأرباح…….
فى السبت التالي ولكن دافيد وفرانسوا لم يحضرا فى السبت التالي ولا الذى يليه ، وبعد مرور 4 أسابيع انهارت مقاومة الجنرال واخذ يبحث عن رفيقي اللعب بكل لهفة وعندما عثر عليهما كانت الصدمة فالفرنسي اقسم انه لن يدخل هذا المكان أبدا ، بل انه اقسم انه لن يلعب فى اى مكان عام مرة أخرى حفاظا على كرامته وهيبته، وبالطبع كان دافيد يوافق ضيفه على ذلك الموقف..
وراح الجنرال يبحث عن طريقة مناسبة لاستكمال حلقة الربح الذى أحبه وأدمنه ولم يعد من الممكن ان يتخلى عنه ، ثم جاءته الفرصة على طبق من ذهب عندما ربحت زوجته رحلة مجانية لمدة شهر كامل من شركة( بيتون ) للسياحة التي أعلنت أنها ستتكفل بمصروفات السفر والإقامة بالإضافة الى حصولها على جائزة مالية بقيمة المصروفات الخاصة !! ولأن الأمر لا يقاوم سافرت زوجة الجنرال وتركته وحده فى منزلهما طوال الفترة من منتصف أغسطس الى منتصف سبتمبر 1973م ، وعلى ذلك تلقى دافيد باراهودا وفرانسوا مولييه الدعوة لقضاء أمسيات السبت فى منزل الجنرال ايزاك رابينوفيتش حول طاولة لعب خاصة…
ووصلت المخابرات المصرية الى قلب منزل الرجل الذى يحتفظ بأهم أسرار العسكرية الإسرائيلية ، وعندما تأتى سكرة الربح ويغرق الجنرال فى نعاس عميق محتضنا أمواله وأوراق اللعب ، وفى حين يجلس دافيد لحراسته، كان العميل المصري الذى ينتحل شخصية الفرنسي ليخفى حقيقته كخبير خزائن لا يشق له غبار ، يبدأ فى التجول بحرية داخل منزل الجنرال ليفحص كل شبر بحثا عن تلك الخزينة السرية التي تحوى كل أوراق ووثائق الجنرال السرية ، والواقع ان تلك الخزينة كانت تحفة أمنية بكل المقاييس حتى ان خبير الخزائن المحنك قد احتاج الى ثلاثة أمسيات كاملة قبل ان يعثر عليها والى أربع ساعات كاملة فى الأمسية الرابعة والأخيرة قبل عودة زوجة الجنرال ، حتى يتجاوز كل استحكاماتها مع أول ضوء شمس ، ليبدأ البحث
وسط كل ما تحتويه من أوراق سرية عن شفرة الدفاع الجوى.. ومن المؤكد ان المخابرات المصرية أدركت كم كانت خطتها عبقرية عندما تلقت ثلاثة من الميكروفيلم تحوى عشرات الصور التي التقطها العميل المصري لكل الوثائق السرية التي تحتويها الخزينة قبل ان يعيد إغلاقها على نحو لا يمكن معه كشف ما فعله بها وبمحتوياتها…….
وفى الوقت ذاته الذى تلقت فيه القوات الجوية المصرية شفرة الدفاع الجوى الاسرائيلى كان دافيد وفرانسوا يواصلان للعب والخسارة أمام الجنرال رابينوفيتش فى نفس المقهى الذى وافق الاثنان على العودة إليه بعد عودة زوجة الجنرال من الرحلة التي دفعت ثمنها المخابرات المصرية عبر واحد من أهم واخطر عملائها فى تل أبيب ……
وفى الرابع من أكتوبر 1973 م سافر دافيد وفرانسوا (رجل المخابرات المصرية ) الى باريس مع وعد للجنرال بقضاء أمسية السبت التالي فى المقهى ليواصل أرباحه ، وكانت تلك هي أخر مرة يحصل فيها الجنرال على أموال المخابرات المصرية …….
ففي ظهر السبت التالي السادس من أكتوبر 1973م انقضت الطائرات المصرية على خط بارليف وكل معسكرات ومطارات إسرائيل فى قلب سيناء وجن جنون الإسرائيليين عندما فشلت دفاعاتهم الجوية فى اصطياد نسور مصر الذين انطلقوا يحطمون وينسفون الغطرسة الإسرائيلية ويمحون أسطورة الجيش الاسطورى الذى لا يقهر أبدا ، وفى القاهرة راح الرئيس السادات يوزع الأوسمة والنياشين على الجيش المنتصر ويتلقى تهاني شعبه الذى أسكره النصر وأعاد إليه الثقة بقيادته وحكومته وفى الوقت ذاته اخذ رجال المخابرات المصرية يراجعون تقارير العمليات الأخيرة ، ويبتسمون فى ثقة بعد أن
أدركوا أنهم كانوا يمسكون أوراق اللعبة فى أيديهم طوال الوقت …
التعليقات مغلقة الان