قصةقصيرة.. احتراق للكاتبة نهال عبدالواحد

بقلم:نهال عبد الواحد

هل فكرت يومًا أيها الغريب أن كل شئ يمكن أن ينتهي بين عشية وضحاها؟
لا بل قد ينتهي في طرفة عين، وتتغير الأحوال وتتبدل في أقل من الثانية.

وصل الاثنان اليوم بعد منتصف الليل كان يسندها طوال الطريق لكن قد خارت قواها عند باب الشقة فما أن طرق الباب حتى سقطت مغشيًا عليها من أثر تعب وإنهاك قارب ثمان و أربعين ساعة.

فحملها رغم إنهاكه هو الآخر مراعيًا يديها المربطتين، فتح الباب بسرعة فقد كان ينتظرهما آباءهما في قلقٍ مرعب، فالأخبار المروعة قد انتشرت في جميع القنوات و البرامج وقد انقطعت أي وسيلة اتصال.

ورغم هيئتهما المضطربة و المتسخة برماد الحريق وحجاب رأسها المتبعثر الخارج منه بعض خصل شعرها البنية على جبهتها الخمرية وعينيها العسلية مغمضة ومرتدية سترته؛ فواضح أن ملابسها التحتية ممزقة بفعل نار، وهو أيضًا شعره مبعثر وأجزاء من ملابسه ممزقة.

لم يسأل الجميع عن التفاصيل فكون أنهما قد وصلا البيت بسلام ولازالا على قيد الحياة هو أسمى الأمور ولا يهم معرفة أي تفاصيل الآن، وكل مافعلوه أنهم سجدوا لله شكرًا.

حملها هذا الشاب المنهك و وضعها في فراشها وكانت ترتجف بشدة فدثرها بأغطية وظل جوارها يربت عليها حتى هدأت وتأكد أنها في سبات عميق.

ولم لا؟ وهي أهم من لديه، مهجة قلبه و نور فؤاده، وزوجة المستقبل.

خرج الشاب من حجرتها ودون أي كلمة خرج من الشقة بأكملها، وما كانت سوى بضع خطوات وفتح باب شقته ودخل بها؛ فالباب وجه الباب.

دخل وأخذ حماما دافئًا ثم جاءت إليه أمه بصينية طعام فوضعته جانبًا ثم احتضنته بعطف وحب، قبلت رأسه ودموعها متساقطة أن عاد سالمًا إلى البيت فربّت بيديه على أمه، لكن لا قدرة له الآن بالتحدّث، كما لا شهية له لأي طعام وطلب من أمه أن تأخذ هذه الصينية مشيرًا لها بأن لا يقدر.

خرجت الأم تحمل الطعام و تقدر حالته الآن فحتمًا يحتاج أولًا للراحة.

استلقى في فراشه لينام بعد ذلك التعب المميت، لكن قد جفاه النوم رغم ذلك الإنهاك فكان يتقلب يمينًا ويسارًا ربما يرتاح وينام .

وبعد العديد من المحاولات الفاشلة جاءته فكرة ربما تنجح ويستطيع النوم بعدها، ماذا لو أفرغ كل ما بداخله حتى ينام بخفة؟

فنهض من مكانه، جلس على مكتبه وأحضر أوراقًا وقلمًا، ود لو كتب مذكراته رغم أنه لم يفعلها يومًا قبل ذلك لكنها الطريقة الوحيدة ليفضفض بها مع نفسه، فمن تسمعه لا تقوى الآن!

وبدأ يكتب لكن ماذا يكتب ومن أين يبدأ؟
كل الأحداث متشابكة ومتداخلة فلم يكتب سوى اليوم و الموافق، ثم حك طرف القلم في شعره الأسود القصير ثم في جبهته المائلة للإسمرار، وضيق عينيه الداكنتين كأنه عرف ماسيكتب ومن أين سيبدأ!

اليوم: الخميس بعد منتصف الليل
الموافق: 28/2/2019

سأبدأ و أعود لأعوامٍ مضت، من عشرة أعوام وربما أكثر، فهمسة طوال عمرها جارتي وصديقة الطفولة وتربينا معًا، لا لا لم نكن وقتها صديقين فقد كنا دائمي المشاكسة، نكاد لانطيق بعضنا ففارق ثماني سنوات في الطفولة فارق كبير لا يسمح بتعاملٍ موفق.

وكما نقول نحن المصريون «ما محبة إلا بعد عداوة» فقد صرنا هكذا حتى التحقتُ بكلية الطب، كانت همسة في المرحلة الإعدادية، ولا أزال أذكر ذلك اليوم، ربما لأنه يوم فاصل!

كنت قادمًا من كليتي وبعد أن هبطتُ من المترو وجدتها تمشي أمامي مع إحدى زميلاتها عائدتين من المدرسة وكانتا تتحدثان بصوتٍ مسموع ثم ضحكتا، ولا أدري وقتها لماذا أثار ذلك غضبي! ربما لأنها صارت فجأة جميلة الملامح رغم أن في المرحلة الإعدادية تلك تكون لنا ملامح عجيبة تجعل التخلص من صور تلك المرحلة أمرًا حتميًا.

المهم ظللت أتبعها حتى تركتها زميلتها تلك، وإذا بي أعنّفها بشدة على ارتفاع صوتها وضحكها في الطريق، وذلك قد أغضبها بشكل واضح لدرجة أنها كانت تضغط ببعض أطراف أناملها على بعضها حتى ابيضت.

ومنذ ذلك اليوم وأنا أجد نفسي أتابعها وأبحث عنها كلما مررتُ من طريق المدرسة أو وقفتُ في شرفة حجرتي الملاصقة لشرفة حجرتها، وعندما أجدها تراني أبحث بداخل جيوبي عن حلوى أو شيكولاتة وأقدمها لها كأنها عبر الصدفة.

وبدأنا نتحدث قليلًا، وكانت أحاديثنا عادية وأمور عامة لا شيء فيها، فتحدثني عن مواقف لها مع زميلاتها بالمدرسة وأحدثها أنا عن ما ألاقيه في دراسة الطب، حتى إني كنت لأحكي لها عن سكاشن التشريح فكانت تصرخ كالأطفال باشمئزاز، وكنت كلما اقترحت عليها أن تدخل كلية الطب فيما بعد فترفض بشدة لأن ذلك يؤلمها ففي رأيها أنها إن رأت مريضًا يتألم ستبكي جواره بدلًا من مساعدته… كم أنتِ ساذجة يا همسة!

كنا نتحدث معًا بين الشرفات فلم يكن وقتها متوفر الهاتف المحمول ذات التقنيات العالية بين الجميع فكانت الشرفات طريقة التواصل، وكنا ننادي بعضنا بطريقة يحفظها المصريون جيدًا، عبر قذف مشابك الغسيل، وربما كتابة ورقة ووضعها بداخل المشبك ثم قذفها، وفي بعض الأحيان نضع النقود بداخل تلك المشابك عندما نود إرسال أحد لشراء شيء ما.

وأذكر ذلك اليوم الذي أحضر لها والدها هاتفًا حديثًا وجلستُ معها على مصطبة السلم أشرح لها كيفية تشغيله والتعامل مع التطبيقات المختلفة، وقد أكلنا يومها كميات من اللب والسوداني وقد أثرنا الفوضى والإتساخ حولنا فحكمت علينا أمهاتنا بتنظيف درجات السلم ومسحها، كم كان يومًا رائعًا!
فقد تحوّل وقت التنظيف وقتًا مرحًا لرش وتقاذف المياه!

ومرت الأعوام والتحقت همسة بكلية التجارة وكان ذلك يمكّننا من الذهاب معًا، فنحن نسكن في مصر القديمة فنمشي حتى نصل لمحطة مترو الأنفاق ثم نركب المترو وننزل في رمسيس ثم تتفرق مقاصدنا بعدها.

لكني كنت دائم الزيارة لها في كليتها، كنت أود التعرف على زملاءها الجدد خاصة الشباب منهم ومعرفة كيف تتعامل معهم، ليس ذلك لانعدام الثقة بل لشيءٍ آخر كنت لاأزال اكتشفه، إنه إحساسي بها، صرتُ أتأكد الآن من أني أحبها بل وأشعر أنها تبادلني ذلك الإحساس لكن لازال كل منا محتفظًا بإحساسه.

وعندما وصلت للفرقة الثانية كنت قد تخرّجت من الكلية وبدأت العمل كطبيب إمتياز في طوارئ مستشفى الهلال الأحمر وأحيانًا في معهد ناصر واثنانتهما في وسط البلد، لذلك استمر طريقنا واحد فنخرج معًا وأحيانًا نعود معًا.

وصرنا الآن نتحدث عبر مواقع التواصل المختلفة خاصة عندما أبيت في المستشفى وأشعر بملل فأجدها سهرانة فنتحدث معًا عبر الشات، ولازال حديثنا عامًا.

حتى قررتُ ذات يوم البوح بمشاعري لها و ودت أن أرى وجهها وانطباعاته عندما تعرف، وعدت من جديد لطريقتنا القديمة وكتبت رسالة على ورقة ووضعتها بداخل مشبك وفي يدي الأخرى آخر فارغ اقذفه أولًا حتى تخرج إليّ، ولازلت أذكر ماكتبته حتى الآن:

«يا أعز الأصدقاء، يا جميلة الجميلات، ويا كاتمة الأسرار، يا أحلى قمر في سمائي، يا أجمل زهرة ربيع في الحديقة، وأخيرًا انحلت عقدة لساني، فأنتِ حياتي القادمة التي أتطلع إليها، قلبي الذي ينبض دومًا يبث إليّ الحياة، يا أحلى همسة أحبك، يا أرق عصفور يغرد، يا نوارة عمري أضيئي أيامي بوجودك معي، فعشقك هوائي الذي اتنفسه، دمي في عروقي،
أحبك همستي.»

كنت أتابعها وهي تقرأ رسالتي وأرى تعبيرات وجهها الجميل كيف تبدو! وكيف تغيرت! وكيف رأيتُ تلك اللمعة في عينيها وتلك الإشراقة في وجهها كما تمنيتُ!

وبعد اعترافي بحبي لها وتأكدي من مشاعرها، عليّ الآن أن أنجز في عملي وأنتهي من مناقشة رسالة الماجستير حتى أتمكن من التخصص في طب الأطفال وأعمل بذلك التخصص.

وبدأتُ بالفعل أجتهد وأجد، وقد أقنعت والديّ مؤخرًا بإمكانية طلب خطبتها تلك الأيام، ثم إتمام الزواج بعد تخرج همسة، وأكون في تلك الأثناء قد قطعت شَوطًا في طريقي.

وبالفعل تقدمت لخطبتها، قرأنا الفاتحة وأصررتُ على ارتداء خاتم الخطبة ليعلم الجميع أنها لي.

وكنا أحيانًا بعد خطبتنا نتأبط في سيرنا معًا أو نتشابك الأيدي، وقد اعتدنا على رؤية طفلة صغيرة، وجهها جميل وأبيض اللون وعيونها داكنة وشعرها بني فاتح يميل للإصفرار وناعم، كانت هيئتها أنها لم تبلغ العاشرة بعد.

كانت تلك الطفلة تبيع المناديل ونراها يوميًا في المترو وتنزل معنا لمحطة رمسيس فتذهب لداخل محطة القطارات وكانت تطلب منا أن نساعدها في عبور الطريق وبالفعل كنا نفعل وندخل معها للداخل.

وكنا نشتري منها كل يوم حتى ولو لم نحتاج فيبدو أنها هي من تحتاج وإلا فلم تركت المدرسة وخرجت للعمل؟!

ورغم تلك الصداقة التي نشأت بيننا إلا إننا كنا نستحي أن نتطفل في حياتها الشخصية فلم نعلم عنها أشياء كثيرة، إلا أنها تُدعى نسمة.

وكان الأمس صباح الأربعاء وقد استيقظت متأخرًا و وجدتُ همستي كذلك، فقد زاد حديثنا معًا في الليلة السابقة، فما أجمل الحديث معك! وما أجمل التغزل في جمالك حبيبتي !

فتفاجئت بها متأخرة هي الأخرى عندما فتحت باب شقتي لأخرج فوجدتها هي أيضًا، وبالطبع كان مزاجها سيئ فهي تحب الإستيقاظ باكرًا وإعداد نفسها علي مهل -هكذا معظم الفتيات- وطوال الطريق تلقي باللوم عليّ قائلة: أنت السبب يا عمر، حتى بدأت تثير غضبي.

وكالعادة قابلنا صديقتنا نسمة الصغيرة لكننا عندما هبطنا إلى رمسيس تحججتُ بتأخري على العمل حتى لا أثور عليها، فأنا لا أحب نفسي عندما أُغضبها.

المهم أني تركتها توصل نسمة وذهبت أنا لعملي نحو مستشفى الهلال وكانت الساعة قد تجاوزت التاسعة والنصف وعليّ الإسراع فاليوم أبدأ في العاشرة.

وبالفعل سرت مسافة وجيزة لكن فجأة!
صوت انفجار مدوي هز أرجاء المكان من قوته، ففزعتُ فجأة وانخلع قلبي والتفتُ حولي مثل غيري من المارة لأرى دخان كثيف يخرج من محطة القطار.

وكأني وقتها أرى أحلامي جميعًا تتساقط و تتلاشى، همستي! مهجة قلبي! بداخل المحطة الآن!

وجريت عائدًا في اتجاه المحطة ولا أفهم ماذا جرى! وكلما إقتربت أرى الناس تخرج مسرعة ومفزوعة، وها أنا قد اقتربتُ وسمعتُ تلك النداءات من داخل المحطة أن على الجميع إخلاء المحطة فورًا، وقد علمت أن السبب هو خروج جرار إحدى القطارات عن مساره فجأة فاصطدم الجرار مسرعًا في الرصيف   وقد أحدث انفجارًا كبيرًا و اندلاع النيران في كل مكان.

كنت أتلفت حولي أبحث عن همسة بين الجموع الغفيرة، وكنتُ أتشبث بقدميّ في الأرض وأنا أسرع للداخل لأني أسير في الإتجاه المعاكس فإن ذلت قدماي فسأُدهس حتمًا.

ووصلت لداخل المحطة ولم أصدق هول مارأيت، الناس تجري كما هي مشتعلة وإذ فجأة تسقط أمامي متفحمة! لم أرى مثل ذلك المشهد المروع الذي حُفر بداخلي ولا أعلم لمتى سيظل؟!

فبحكم عملي كطبيب في طوارئ مستشفى عام كم رأيت من مصابين حوادث وجرحى بل وموتى، وكثيرًا ما حضرت سكاشن التشريح ولم يؤثر بي كل هذا.

لكن  منظر الناس المحترقة جعلني واجم وأحاول استيعاب ما يجري حولي، أذكّر نفسي بأني طبيب وعليّ تقديم المساعدة وانقاذهم بقدر المستطاع.

وإذا بصوت سيارات المطافيء والإسعاف قد وصلت وبدأ رجال المطافئ إطفاء الحرائق.

مهلًا، كأني لمحتُ همستي هناك تتلفت حولها، هل تتلفت من الزعر أم أنها…
مؤكد أنها تبحث عن نسمة! يا إلهي! ترى هل أُصيبت بمكروه؟!

كانت همسة مصدومة فالمشهد مريب ومفزع، ومن صدمتها تلك جعلتها تترك هؤلاء المحروقين دون مساعدة.

وفجأة خلعت سترتها فهذا كل ما معها وكلما مر بجانبها من يحترق تضرب عليه بالسترة  لتخمد النار، وقد كانت أكثر ضرباتها غير صائبة فبالتالي تجدهم يتساقطون أمامها متفحمين في لحظات وذلك غير تلك الأشلاء الآدمية المتناثرة.

كنت أود أن أصل إليها فقط وأخرجها من هذا المكان ثم أعود وحدي بعد ذلك لإستكمال عملي، أعتقد قد تضررت نفسيتها بشكل سيحتاج لعلاج نفسي، بل ليست وحدها!
ولست أدري من أين جاءت هذه البطاطين التي نخمد بها النيران!

كنت أتحرك مقتربًا ناحيتها فعين عليها وعين على المصابين لأقوم بدوري، فقد ظهر بعض من زملائي الأطباء وبدأنا نتفقّد الملقين على الأرض ونستخرج منهم من لازال على قيد الحياة لتحمله الإسعاف للمستشفيات، ولازالت…

وفجأة رأيت همسة تجري باتجاه طفلة مشتعلة على أغلب الظن هي نسمة وتضرب فيها بسترتها  لكن لا فائدة، فقد انتهت مثلما انتهى غيرها لكني أرى همسة تصرخ بشدة وأخيرًا اقتربتُ لا بل وصلتُ فحملتها وجريتُ بها لخارج المحطة بأكملها وهي تبكي وتصرخ، لكني الآن منتبه لألا أدهس أحدًا بقدميّ.

وأخيرًا خرجنا فجلست بها على أقرب رصيف فارغ ثم ضممتها بشدة نحوي لا أصدق نجاتها، لا أصدق أني ربما كنت فقدتها، وبكيت بشدة مثلها على ما جرى، على من راحوا.

كانت تبكي وتصرخ في بهيستريا: لماذا؟ لماذا تموت طفلة صغيرة هكذا؟ لماذا يموت كل هؤلاء هكذا؟ كم تعبوا وتألموا؟! كم خافوا وتعذبوا؟! لماذا؟ لماذا؟!

فرددت بقهر: فليرحمنا الله! لنا الله! ولك الله يا مصر!

فقالت بصوتٍ متحشرج يخالطه البكاء: فليرحمهم الله جميعًا وينزل الصبر والسلوان على ذويهم!

فقلت في حسرة: إنا لله وانا إليه راجعون!

ثم انتبهتُ فجأة أن يديها بها حروق وبملابسها تمزيق بفعل النار فألبستها سترتي وذهبت بها لإحدى سيارات الإسعاف لتتخذ اللازم معها، وذهبتُ أكمل عملي في محاولة لإنقاذ وإسعاف المصابين.

ثم عدت اليوم بها للمنزل، ورغم كل شيء فالحمد لله أن لم يصيبها مكروه!

ثم وقع باسمه   عمر

وإنا لله وإنا إليه راجعون،
رحم الله شهداءنا واسكنهم فسيح جناته.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان