رواية “راضية ” الفصل الخامس والسادس عشر للأديبة “نهال عبد الواحد “

الفصل الخامس عشر

 

بينما راضية جالسة جوار الفرن تصنع الخبز فها هي تضع رغيفًا من عجين وبعد قليل تخرجه ناضجًا رائحته الذكية تملأ المكان.

فإذا بعلي قد جاء يحمل طبقًا في يده فنظرت إليه وإلى الطبق مبتسمة و مستفهمة ثم قالت بنبرة بها خيبة أمل: كَن أمي حُسنى عنديها حق إكمني عملت الرشتة!

فأهدر علي بابتسامة عريضة: ليه؟! تسلم يدك.

– ماهو باين، الطبج زي ما هو.

فضحك وقال: الطبج! إنتِ عارفة دي الطبج الكام؟ ده إحنا مسحناها مسح خلصنا كل اللي عملتيه والغايب مالوش نايب، لكن حوشتلك نايبك إنتِ وماليش صالح بخواتي.

– بألف هنا!

ثم قال بأسلوب لم تعهده راضية من قبل: كني حبيتها وخت عليها كماني.

فتوردت خجلًا وحاولت أن تخفي ارتباكها لكنه كان واضحًا للغاية، فقال علي: جبلتلك دول تفطري بيهم.

– تعيش يا خوي.

– ما كنتش أعرف إن الرشتة زينة إكده ولا إكمنها من يديكي، أحلى رشتة دوجتها وغلاوتك.

فقالت بخجل: كَني عاخد على كلامك الحلو دي.

– وماله، براحتك… إفتحي.

وإقترب منها ليطعمها في فمها.

فقالت بحرج شديد و وجه كاد يشتعل من شدة حمرته: واه! حد يوعالنا.

– اللي يوعى يوعى،  بس إيه الحلاوة دي يا بت! وكل ما بتستحي بتحلو أكتر.

و إذا بصوت حُسنى: الله… الله… إيه المسخرة دي!
إيه اللي موجفك إهني يا علي! ما تعرفش إن البكان دي للحريم؟

– صوح يا مي دي بكان الحريم لكن مافيهش دلجيتي حد غير مرتي،  مالك بس يا مي؟ مرتي وجاعد معاه بجالي كد إيه ما شوفتهاش واتوحشتها.

– سيبها دلجيتي تخلص اللي وراها لسه حداها شغل كَتير، إبجى جلع فيها ف الليل لما تبجو لحالكم مجفول عليكم بابكم،  وإنتِ يا بت جوزك جاي م السفر ومحتاج وكل زين.

– عيني يا مي.

– ادبحي كد عشرين جوز حمام ونضفيهم واحشيهم وسويهم.

فصاح علي: وااه يا مي! كَتير كل دي! حد جالك إني بجيت ديناصور!

قالت حُسنى: واحنا كَتير يا ولدي و بعدين احنا عناكل والباجي تشيله و تجمده وتاخده معاك وإنت معاود مصر، إنت مسافر ميتى يا وليدي؟

– بكرة إن شاء الله يا مي.

فاختفت ابتسامة راضية وقد لاحظها علي.

فأومأت حُسنى: طب يا دوب،  إدبحي كماني جوزين تلاتة فروجات وجهزيهم برديكي.

فقال علي: ما تسويش يا غالية الطير اللي عاخده معاي.

صاحت حُسنى: عتاخده ني يا ولدي!

– أيوة يا مي.

– طب خلصي الحمامات وإعملي شوية فريك بالتجلية و شوية ملوخية.

ثم نظرت لولدها وأكملت: وبعدين نبجي نشوف حكاية الوكل الني دي، جرى إيه يا علي ماتروح تنام ولا تشوف حالك عتفضل لازجلها اكده! العيال زمانتهم عيصحو ماعايزنهمش يشوفوا المسخرة دي.

فقال علي مضض: حاضر يا مي.

ثم انصرف هو وأمه وتركا راضية وحدها بعد أن اختفت منها الإبتسامة، أنهت راضية الخبيز ثم ذهبت لتعد الطير كما طُلب منها ثم أعدت الغداء.

وعلى مائدة الغداء كانت راضية واقفة كعادتها بعد وضع الطعام وكانت رائحته الشهية تفوح في المكان، فطبخة اليوم خاصة جدًا فهي مهداة لعلي، وإن كان الطبيخ نفَس كما يقال،  فقد صنعتها بكل الحب الذي تكنه له بداخلها.

فقال علي لها: تعالي يا بت إجعدي جاري.

فأجابت راضية على استحياء: يمكن حد منيكم يحتاج حاجة إكده ولا إكده.

أومأ علي: إجعدي إنتِ، جومي يا أسما جمري عيش.

فنظرت أسماء لمنال وكأنها تنتظر أن تأذن لها.

فصاح علي: إنتِ يا بت! مش بنادم عليكِ!

صاح كامل: فزي يا وَلية جمري العيش.

فهبت أسماء من فورها مسرعة فأشار علي لراضية أن تجئ جواره فجلست، أمسك علي بإحدى الحمامات و قسمها بينه وبينها و وضع أمامها فنظرت إليه بسعادة غامرة مصحوبة ببعض الحياء، فابتسم إليها و قطع لقمة وغمسها و أطعمها في فمها فأكلت وهي تنظر للأرض متهربة من العيون الفاحصة لها خاصة عينيّ منال.

تحدثت حُسنى: خلصتي يا راضية اللي جلتلك عليه؟

فانتفضت وأجابت بصوت متقطع: أيوة يا مي،  نضفت باجي الحمامات والفروجات وحطتهم ف الفريزر.

– طايبين ولا نايين؟

– نايين يا مي.

– ليه؟! ومين اللي عيطبخهم؟ جوزك لما يعاود من شغله هلكان!

تحدث علي بهدوء: في إيه يا مي؟ أنا اللي جلتلها،  عخدهم نايين.

صاحت حُسنى: كِيف يا ولدي؟ ومين اللي عيطبخهم؟

أجاب علي بتلقائية: مرتي طبعًا.

قالت منال: مرتك كِيف؟ هو إنت إتجوزت ف مصر؟
قالتها بطريقة كيدية وهي تنظر ناحية راضية.

تأفف علي وصاح: أستغفر الله العظيم، مرتي اللي جعدة جاري دي، عتاجي معاي و تطبخلي هي.

وما أن سمعت راضية تلك الكلمات حتى توقفت عن الطعام و نظرت في الطبق الذي أمامها  تستمع بكل حواسها دون أي حراك بينما وجمت منال وحُسنى.

نظر إليهما علي وقال: إيه مالكم! إتنجلت ف بلد تانية و الست مُطرح ما يكون راجلها ولا إيه! واديني ظبطت حالي هناك واهي تاجي معاي ولا عفضل رايح جاي!

قالت منال: وتروح وتاجي ليه؟ رجالة كتير بيسيبو حريمهم ويسافروا بالسنة عادي يعني،  الراجل من دول يسافر ويسيب مرته حبلى عبال ما يعاود تكون ولدت والعيل بجي حلو إكده، لكن اللي حدانا لا حبلى ولا غيره.

صاحت حُسنى: إسكتي ساكتة انتي!

– واه يا مرت عمي!  عتسبيها تسافر وياه!

– أمال ولدي يعيش عازب وهو متجوز!

– ومين اللي عيعمل شغل البيت ويطبخ ويخبز؟

صاح علي بحدة وصوت أفزعها: إنتو! كِيف ما كنتم طول عمركم بتعملو، وبعدين ما لكيش صالح إنتِ، أنا بتحدت مع أمي وخواتي.

– واه!  ده أنا بت عمك يا علي.

صاح قاسم: ما تكتمي يا وَلية إنتِ ولا اتوحشتي البلغة بتاعة عشية! سافر يا خوي طبعًا وخدها معاك.

وتابعت حُسنى بلطف: أيوة يا ولدي سافروا بالسلامة.

وما أن سمعت راضية هذه الكلمات حتى تنفست ثم وقفت وجريت لأعلى متجهة لغرفتها ونظر علي نحوها وسط دهشة الجميع ثم تحرك يتبعها.

جرت راضية حتى دخلت غرفتها وارتمت على الأرض تسجد سجدة شكر لربها وتبكي بشدة وهي تحمده بصوت مسموع قليلًا تخالطه شهقات بكاءها.
نظر إليها علي وابتسم ثم تركها ونزل في هدوء وجلس ليكمل طعامه.

صاحت منال: مالها مرتك يا علي؟ إيه اللي عفرتها!

فنظر إليها علي بفرغ صبر متأففًا، ثم نزلت راضية مجددًا وجلست جوار علي وقد صارت أكثر هدوءًا، فربت علي على يدها فنظرت إليه مبتسمة وعادت لتكمل طعامها.

ثم سألها علي: ميتى روحتي آخر مرة بيت أبوكِ يا راضية؟

– من عشية ماودتني يوم ما سافرت وأنا ما عتبتش باب البيت.

فقالت منال: بس مرت أخوها بتاجي.

فنظر نحوها علي بتوعد ثم نظر لراضية بابتسامة: خلِّصي وكلك واتسبحي وجهزي حالك عشان نروح بيت أبوكِ بعد صلاة المغرب.

فانتفضت راضية وتهللت أساريرها بشدة ولم تعرف ماذا تفعل! وبماذا تعبر له عن سعادتها؟
لكنه انحنت فجأة و جذبت يده وقبلتها،  هزته بفعلتها هذه و زلزلته من داخله لكنه بدا متماسكًا أمام الجميع وضغط بيده على يدها وقد أعجب ذلك حُسنى و إخوته، لكن منال بالطبع…

أنهت راضية طعامها و لأول مرة تترك المائدة وغسل الأطباق وأي شيء لغيرها، دخلت غرفتها و تحممت وارتدت عباءة سوداء وكان لازال هناك متسعًا من الوقت،  فأخذت تخرج ملابسها وتضعها في الحقائب…………….

(الفصل السادس عشر)

 

ارتدت راضية عباءة سوداء وكان لازال هناك متسعًا من الوقت فأخذت تعد ملابسها وتضعها في الحقائب حتى دخل عليها علي وسألها: جهزتي حالك يا راضية؟

– أيوة باجيلي التحجيبة،  فجلت أعبي الشنطاية.

– راضية! إنتِ كل لبسك شكله إكده؟

– إكده كُيف؟

– عبايات وجلاليب!

– لا، جصدك يعني لما نسافر علبس إيه!

– آه.

– إطمن عندي كَتير.

– فين أمال؟

– أنا إهني ما عخرجش واصل،  وف البيت ما بجعدش راحة جاية من إهني لهنكا، عتبغدد ليه؟

فضحك وقال: أديكِ فايتاهم أما نشوف الحجج، يلا همي!

وارتدت راضية حجابها واكتحلت من جديد فمسك علي يدها وجعلها تتأبطه ونزل بها وهي جانبه تمشي على استحياء.

حتى وصلا إلى بيت أبيها فوجدها بجانبه واجمة. فسألها: مالك يا راضية!

– خايفة.

– خليكي شَديدة أمال، هاتي يدك.

وما أن ترجلا من السيارة حتى وجدت أولاد أخيها يجرون نحوها يسلمون عليها بسعادة ويصيحون: عمتي راضية جت!

زاد صياح الأولاد فخرج على أثر الصوت الأب صالح وأخيها عبد الرحمن وكريمة زوجته، كانت لا تزال راضية تسير خائفة و ترتجف في يد علي لا تعرف كيف سيستقبلها أهلها فالمرة السابقة قد طُردت منه.

لكن ما أن رآهما صالح معًا حتى ابتسم بملئ فمه وفتح ذراعيه إليها فابتسمت هي الأخرى و نظرت لعلي فهز رأسه لها أن نعم.

فجريت إلى حضن أبيها تبكي بشدة وهو يهدئ من روعها ثم فعل كذلك أخيها وهي تبكي بشدة فأخذ يقبل رأسها كثيرًا فيزداد بكاؤها.

هَم عبد الرحمن أن ينزل ليقبل قدميها لكنها مسكته لألا يفعلها.
وبعد السلام والترحيب.
قال صالح: جهزي العشا يا كريمة.

أومأت كريمة بسعادة: حاضر يا عمي.

فأهدر علي: لا ما لوش لزوم.

صاح عبد الرحمن مستنكرًا: كِيف دي؟ لا يمكن! صحيح طبيخ كريمة غير راضية، بس كريمة وكلها زين برضو.

ضحكت كريمة قائلة: لا و راضية لما بتبجى راضية وكلها زين الزين.

ضحك علي قائلًا: عتجوليلي! طبيخها ولا خبيزها ولا فطيرها ولا الرشتة.

صاح عبد الرحمن: لا ما دام وصلت للرشتة دي تُبجى فايجة و رايجة.

فضحكوا وانصرفت كريمة للداخل وهمت راضية باللحاق بها فأجلسها والدها جواره و احتضنها وقبّل رأسها.

سألها صالح: كِيفك يا راضية إبجيتي راضية؟

أجابت:نحمد الله يا بوي.

فتابع عبد الرحمن: جرى إيه يا بوي ما باينش ولا إيه؟

قال صالح: في كلمتين جه وجتيهم.

أجاب علي: خير يا عمي.

تحدث صالح: دايمًا ربنا بيجدر لنا الخير حتى لو بان ف أولته غير إكده وانتو جوازتكم أكبر دليل؛ جدر إن راضية ترفض كل اللي ياجولها، وجدر ولاد عمها يدجو مع ولاد عمك، وجدر إنه ينحكم إنكم اتكونوا لبعض غصب، ماحدش فيكم كان رايد التاني ولا رايد الجوازة دي،  بس أنا عارفك وعارف أبوك الله يرحمه وعارف إنك راجل من ضهر راجل وعتحافظ عليها صُح أكتر كماني من ولاد عمها، لكن كماني كنت عارف راضية ودماغها الناشفة وكد إيه محتاجة لوجت عشان تلين، إوعاكو تكونوا فاهمين إنه لما جالو دخل علي صدجت إنك دخلت صوح على بنيتي عشان عارفها زين، لكن اتفاجئت بالمصيبة اللي عملتها ف الصباحية، عارف يا بنيتي إننا جينا عليكِ كَتير لكن كنت شايف اللي ما شايفاهوش، و اديكي شوفتي واتوكدتي إن علي مناسب ليكِ.

ابتسم علي وقال برضا: والله ف عيني ياعمي! خصوصي بعد ما اتنجلت القاهرة وهي عتسافر معاي إن شاء الله و نجعد هناك.

أومأ صالح: ربنا يوسع عليك ويجدرلكم الخير يا ولدي! جوم هات الساجع يبلوا ريجهم  لسه ع الوكل شوي.

فذهب عبد الرحمن، ثم نظر بينهما صالح قائلًا: ربنا يسعدكم يا ولادي و يتمم ابخير!

فنظر إليه علي مستفهمًا، فضحك صالح وقال وهو يشير لشعره الأبيض: الشيبة دي يا ولدي مش من شوي، وأنا عارف إنها لسه مش مرتك،  لكن متفائل خير، ربنا يجرب البعيد و يتمم ابخير ويرزججم بالخلف الصالح.

فابتسما علي و راضية على استحياء، وأكملا الوقت معهم ثم ودعت  والدها، أخيها وابنة عمها ثم انطلقا بالسيارة.

تحدث علي ضاحكًا: بس الحاج صالح دي طلع مش ساهل واصل،  داري بكل حاجة.

فضحكت، فأكمل علي: بصي يا راضية،  ربنا جدر نكون لبعض و عارف إني مجرد واحد غريب عنيكِ، و عاذرك، بس على رأي ابوكي جدرلنا سفرية مصر دي عشان نجرب لبعض و نعرف بعض أكتر و نولف على بعض كماني، ولحد ما نولف علي بعض هنفضل إكده، جولتي إيه؟

ابتسمت قائلة: جولت راجل وكلام راجل.

فابتسم لها ثم قال: صُح يا راضية إنتِ ما كملتيش علامك ليه؟

– جبل إمتحان الثانوية العامة أمي ماتت ماقدرتش أخش الإمتحان و راحت علي السنة مع إني كنت مذاكرة، وجه أبوي و جعدني ف البيت بعد إكده وخلاص.

– لكن إنتِ كان نفسك تكملي؟

– آه….. يلا نصيب.

أكمل سيره حتى وصلا للبيت و يبدو أن الجميع قد نام، فابتسم علي قائلًا: شكلهم ناموا.

وهنا خرجت منال وصاحت: لساتكم راجعين!

فانتفضت راضية فأمسكها علي وأدخلها في حضنه تتلاقط أنفاسها وقال منزعجًا: سلام قولاً من رب رحيم.

ثم صعدوا و همس لراضية: أول مرة منال تتسبب في حاجة مفيدة.

فضحكت ودخلا غرفتهما وأكملت راضية إعداد الحقائب وأنهيا كل شئ،  وما أن جلست راضية على السرير حتى غطت في سبات عميق.

استيقظت راضية في موعدها وفعلت كل شيء مثل كل يوم حتى اقترب منها وعندما همت لترتدي حجابها تدخل علي ليعدل لها من وضعيته بطريقة أكثر مدنية.

كانت راضية في قمة إحراجها من ملامسته لوجهها و شعرها الذي يدخله وهو يضبط الطرحة فكانت تقع عيناه عليها و يبتسم.

وبعد أن انتهيا من كل شيء، نزلا بالحقائب و سلما على الموجودين، ركبا السيارة مع قاسم ليوصلهما لمحطة القطار و ظل معهما حتى جاء القطار فركبا وتحرك القطار ثم شاورا لقاسم يودعاه .

سار القطار من محافظة إلى محافظة و كانت راضية تجلس جوار الشباك و بطجوارها علي يتحدثان حينًا و يصمتان حينًا حتى وصل القطار بعد منتصف الليل،  قبيل الفجر فنزلا من القطار و ركبا سيارة أجرة وكانت راضية تتلفت حولها حتى وصلا للبيت ولازالت تتلفت حولها ثم حملت الحقائب مع علي و صعدا لشقتهما………………

وللأحدث بقية ….

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان