رواية ” بعد الليل ” الفصل السادس عشر والسابع عشر للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل السادس عشر

دخلت قمر إلى الحمام، خلعت عباءتها السوداء و كان أسفلها جلباب بيت، وضعت على رأسها حجاب صغير ملون، بدأت قمر في ترتيب البيت و تنظيفه مثلما طلبت منها نرجس، الغريب أنها لم تكن تشعر بأي ضيق؛ بالطبع بسبب لطف نرجس معها و مكوثها معها و كثرة القصّ في أمور كثيرة فجعل الوقت يمضي سريعًا، و أيضًا تلك الألفة و الإنجذاب اللاإرادي.

كانت قمر تعمل خافضة البصر لا تتطلع لما حولها؛ ربما لم يكن البيت شديد الفخامة لكنه أفضل بكثير من بيت أبيها و حتى أفضل من البيت الذي تزوجت فيه.

وقد لاحظت نرجس ذلك منذ مجئ قمر، بل كانت تتابع هذه النقطة بعينها، إذن فهي عزيزة النفس مهما كانت ظروفها!

و بينما كانت قمر تنظّف إذ بَصُرَت عن جُنُبٍ دون أن تلحظها نرجس صورة شاب يبدو وسيمًا نوعًا ما، قمحي البشرة، شعره داكن يميل للون البني له لحية خفيفة و شارب، شعرت من داخلها كأنما رأت ذلك الوجه قبل ذلك و أن تلك الملامح ليست بغريبة عنها.

لكنها أكملت عملها فلا تود التأخير، لكنها لاحظت كومة من الجرائد على منضدة بالجوار، فالتفتت نحو نرجس متسآلة: أنا لجيت دول أرجعهم مكانهم ولا أعمل فيهم إيه!

فقهقهت نرجس قائلة: و الله يا بنيتي شَريف ولدي مرازيني بيهم؛ أصل ولدي بيشتِغِل مدرس لغة عربية و كماني بيكتب خواطر ولا مااعرف إسمها إيه في الجريدة اللي جدامك دي، و رايح جاي يجيب و يجولي إجري يامّي و سلّي نفسك، وأنا ماليش خُلج بصراحة أخرى أَجرَى ف كتاب الله، أجولك… خديهم و ريحِيني منيهم مش إسم الله بتحبي تِجرِي!

فأومأت برأسها أن نعم و هي تردد ممتنة ترتسم على وجهها ابتسامة بلهاء: ألف شكر ليكِ.

و أكملت عملها حتى طلبت منها نرجس أن تكتفي بما فعلت هذه المرة و تكمل عمل في المرة القادمة.

ارتدت قمر عباءتها، غسلت وجهها و ارتدت حجابها ثم جلست في المندرة بصحبة نرجس تنتظران قدوم منصور ليقوم بتوصيلها، وقد أعطتها مبلغًا من المال بعد إلحاح شديد من نرجس فأخذت منها قمر على استحياء.

جاء منصور فحمل عنها كيس الجرائد حتى تلثّم قمر وجهها قبل خروجها، سلّمت على نرجس و انصرفت.

جلست نرجس سعيدة و في نفس الوقت تشعر بافتقادها لها؛ فقد مكثت معها عدة ساعات ملأت يومها، و بعد قليل فتح الباب شاب طويل القامة باش الوجه.

دلف الشاب فانحنى مقبّلًا يد أمه قائلًا: السلام عليكم ورحمة الله يا ست الحبايب.

فربتت عليه بابتسامة عريضة: وعليكم السلام ورحمة الله يا جلب أمك، كيفك يا ضنايا؟!

فأجاب و هو يجلس جوارها: نحمد الله، هه يا غالية عملالنا إيه عل غدا؟!

فابتسمت قائلة: كل خير يا حبيبي، إطلع اتسبّح وغيّر هدوماتك و أنا عجوم أسخِن.

ونهضت واقفة تتجه للداخل فاقترب منها وأمسك بيدها لتتأبطه و سار جوارها يمازحها قائلًا بتدليل:
أمي يا أجمل النساء
يا أجمل نرجس في حديقة عمري
أطال الله في عمرك
وأدام الله عليكِ الصحة والعافية
و أدامك عليّ شمسٌ تضيء حياتي

فضحكت بملئ فمها وهي تقول: الله يحظّك يا ولدي! برضو ما عتبطلش النحوي اللي بترطه دي!

فيجيبها ضاحكًا: يامّي اللغة العربية مش رطّ دي….

و توقف عن الكلام و هو يتلفت حوله بعينه ثم ابتعد قليلًا عنها وقال: يامّي مش جولتلك جبل سابج ما تتعبيش نفسك ف البيت، يعني تنضفي و تطبخي ف يوم واحد!

فابتسمت تربت على خده: ربنا يباركلي فيك و يحنن جلبك عليّ كمان وكمان!

فتابع ببعض الغضب: يامّي شوف عجولك إيه وتجوليلي إيه!

فقهقهت قائلة: طمِّن حالك يا ولدي، أنا اللي طابخة و بس لكن مش انا اللي نضِفت البيت، دي جمر.

فزم حاجبيه بعدم فهم قائلًا: مين يعني؟!

فأجابت: دي بت عتجعد تبيع في السوج جار دكانة منصور، كُت عشتري منها الخضار وتجعد تنضفه فجولتلها و اتفجت معاها تاجي كل حد تنضف البيت، كيف ماانت واعي ماعجدرش على كل حاجة وحدي!

فتنهد شريف بضيق: يامّي وكيف عدّخلي واحدة غريبة البيت؟! نعرفها منين دي اللي عتبيع ف السوج إن كانت حرامية و عتجيب لنا مصيبة وياها؟! يامّي ما عتسمعيش عن الجرايم اللي بتحصل كل يوم و التاني اللهم احفظنا!

فأردفت: اللهم احفظنا يا ولدي! لا والله دي البنتة زينة و طيبة و منكسرة و تدخل الجلب.

فضرب كفًا بكف وتابع متعجبًا: يامّي دي مواصفات عروسة، عايزة حد ينضِّفلك أشيع أجيبلك م البداري بت تاجي تجعد معاكي تخدمك!

فأجابت: لا ما عايزاش حد م البداري ولا عدخّل البيت بنتة تجعد ويانا إلا مرتك إن شاء الله.

فزفر شريف و انسحب من أمامها قبل أن تفاتحه في موضوعها المعهود، بينما هي ذهبت تحضر الغداء.

أما قمر فانصرفت مع منصور وقام بتوصيلها حتى مكان السيارات الذاهبة لقريتها فشكرته و ركبت فأعطى للسائق أجرة قمر رغم إعتراضها، ثم شكرته ثانيًا و انطلقت السيارة بركّابها.

عادت قمر لقريتها و وصلت للبيت قبيل المغرب فاتجهت لغرفة أمها غير عابئة للواذع كلمات عبير، وضعت كيس الجرائد و دخلت تأخذ حمامًا دافئًا و غسلت ملابسها، أعدت طعامها و تناولته ثم صلت المغرب و بعدها جلست تتفقد تلك الجرائد.

بالطبع عندما فتحت الجريدة وجدت العديد من عناوين الأخبار المحلية و الدولية، أخبار النجوم، الرياضة و المجتمع وكلما جذبها عنوان قرأته، حتى وصلت لصفحة المنوعات، لتجد عمودًا كاملًا عليه صورة صغيرة لنفس الشاب الذي رأتها في بيت نرجس والتي تتأكد من داخلها أنها لمحت تلك الملامح من قبل.

وبدأت تقرأ :

(حُبُّكَ لَيْلَةٌ شِتْوِيَّةٌ)

حُبُّكَ لَيْلَةٌ شِتْوِيَّةٌ
يَعْبَقَ عِطْرُهَا مِنَ الصُّبْحِ إِلَى العَشِّيَّةِ
أَرَاكَ فِي مُرَاقَبَتِي لِزَخّاتِ المَطَرِ
و تَرْتَعِدَ أَوْصَالِي عِنْدَ حُلُولِ ذِكْرِك
حَتَى أَكْثَرُ مِنْ فَزْعَتِي مِنْ صَوْتِ الرَّعْدِ
تَلْتَمِعُ عَيْنَايَّ عِنْدَ رُؤْيَتِك
بِوَمِيضٍ أَشْدُّ مِنْ كُلِّ وَمِيضِ البَرْقِ
لَوْ وَقَفْتُ تَحْتَ المَطَرِ!
تُرَانِي، لَوْ وَقَفْتُ تَحْتَ المَطَرِ
هَلْ يَغْتَسِلُ قَلْبِي مِنْ حُبُّكَ؟!
تُرَانِي، لَوْ دَثَّرْتُ نَفْسِي بِأَلْفِ غِطاءٍ
هَلْ يُغْنِينِي عَنْ دِفْءِ حُضْنِك؟!
فَمَا الدِّفْءُ و الحَيَاةُ إِلَّا فِي حُبِّكَ و قُرْبِك

و مكتوبٌ تحتها إمضاء بإسمه (بقلم شريف فوّاز)

كانت تقرأ كلمات الخاطرة و تشعر بأنفاسها تزداد توهجًا و ذلك القلب ينبض بسرعة أسرع حتى من القطار الأسباني لحد قولها، لم تعلم كيف ولا لماذا مسّت تلك الكلمات قلبها هكذا، فأخذت تعيدها مرارًا وتكرارًا و في كل مرة تتذوق طعم الكلام و تشعر بحلاوته فينبسط وجهها و تتراقص ملامحها مع ابتسامة عريضة تخرج من القلب لم تتذوقها ولم تشعر بها منذ زمن، ولازالت لا تعرف سر هذا كله.

وسرعان ما عادت لرشدها مع طرقات الباب و نداء ابنة أخيها: يا عمتي يا عمتي.

فأجابت بصوتٍ مرتفع: إدخلي يا بت.

ففُتح الباب ودخلت طفلة في الخامسة من عمرها تجمع شعرها في ضفيرتين علويتين قمحية اللون و ضئيلة الحجم، فأكملت قمر قولها: عايزة إيه يا بت!

فأجابت الطفلة: عايزة اتفرِج عل كارتون واخواتي غيروه ومش عايزين يرجعوه من تاني.

فأشارت لها أن تجلس جوارها في الفراش وأدارت التلفاز الصغير بواسطة جهاز التحكم و أخذت تقلّب في القناوات حتى صاحت الطفلة: ايوه! سيبيه يا عمتي! هو دي.

فتركت قمر جهاز التحكم و عادت تعاود تكرار قراءة تلك الكلمات التي راقت لها كثيرًا، ومن حينٍ لآخر تلقي نظرة على شاشة التلفاز و كان فيلم (الأميرة النائمة)
(Sleeping Beauty)

و بعد فترة راحت عين قمر في النوم، ثم بدأت تتململ في نومها بفعل دغدغات تشعر بها على شفتيها كأنما يقبلها أحدهم برقة شديدة، فازدادت تململًا وازدادت ملامحها انبساطًا، فعادت الكرة بعد الكرة، فتنهدت و هي تفتح عيناها، نهضت فوجدت نفسها مرتدية فستانًا ورديًّا طويلًا وذا أكمام طويلة، وضعت يدها على رأسها تتحسسه فوجدت رأسها بلا حجاب و شعرها منسدل بطوله على ظهرها و في جيدها عقد أمها الذهبي.

همّت لتنهض لتتفاجأ بأن لفستانها طبقات من الشيفون و الحرير بشكل رائع.

كانت تتلفت حولها؛ تستكشف المكان، لكن سرعان ما وجدت من يجذبها من يديها نظرت على أحد جانبيها فوجدت زوجها الأول و على الجانب الآخر وجدت أمه.

كانا يجذباها و يجراها و يتحركان بسرعة، فزعت و بدأت تصيح فبدأ كلٌ منهما يلكزها بقوة تؤلمها، كانت تركض معهما مجبرة، وكلما التفتت ناحية ذلك الزوج لفحها بفيح حرارة أنفاسه الكريهة، فتسرع لتلتفت بوجهها بعيدًا عنه.

ثم تركاها فجأة فسقطت وأخذت تتعثر و تتدحرج من فوق جرفٍ هارٍ و إذا بأحدٍ يركلها قبل أن تحاول النهوض لتجدها عبير امرأة أخيها، وظلت هكذا و يرتفع نحيبها و صراخها بين خوفٍ وألم.

حتى أمسك بيدها أحدهم فرفعت و جهها نحوه فكان إمام المسجد الشيخ مجاهد فربت على يدها قليلًا و أشار لها في اتجاه فسارت فيه بعض الوقت وهي تكفكف دمعها و تعدّل هيئتها المبعثرة من أثر السقطات.

ثم وجدت حجر فجلست عليه قليلًا تتلاقط أنفاسها فتفاجأت بيدٍ أنثوية و صوتٍ حان تمد يدها بكوبٍ فشعرت فجأة بالعطش و الجوع وكأنها لم تكن تشعر بشيءٍ من قبل!

فأخذت الكوب ورشفت مسرعة دون أن تنظر لما بداخله، فاستطعمت مذاق الحليب فاستكملته حتى شبعت وأعادت الكوب لصاحبة اليد لتجدها نرجس بوجهها الباش، فضمتها نحوها بشدة وربتت عليها بحنانٍ أموميٍّ رائعٍ ثم أشارت لها.

نظرت لحيث أشارت فوجدت حديقة رائعة فتهللت أساريرها و أخذتها قدماها نحوها.

سارت في تلك الحديقة الرائعة تعبث في أغصان الأشجار رائعة الجمال، و في أذنيها أصوات طيور مغردة بأعذب الألحان.

وفجأة شعرت بأحدهم يسحبها إليه وبدون مقدمات يقبّلها بعمقٍ قد أذاب مشاعرها فظلت مغمضة عينيها لم ترى حتى من يقبّلها، فقط تشعر بمشاعر رائعة لم تشعر بها من قبل…

……………..

………………………………….

Noonazad 💕❤💕

(بعد الليل)
الفصل السابع عشر

كانت تتململ في نومتها شاعرة بتلك الذراعين التي تحيط بها و تلك الشفتين اللتين أذابتاها، وفجأة فتحت عينيها ونهضت جالسة تتلاقط أنفاسها المتلاحقة متلمسة شفتيها متلفتة حولها لتجد نفسها لا تزال في غرفة أمها.

لكن لايزال قلبها يسرع في نبضاته بلا توقف، كانت تربت عليه ليهدأ و تعض على شفتيها من أثر شعورها بتلك القبلة.

فأخذت تستعيذ من الشيطان الرجيم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

ثم ابتسمت في سخرية: وآدي اللي خدناه م الفرجة عل كارتون، كنّي طلعت مسحورة ومستنية بسلامته ياجي و يفك سحري ببوسة!

ثم قالت: استغفر الله العظيم وأتوب إليه!

ونظرت إلى الساعة لتجد اقتراب أذان الفجر، فنهضت تتوضأ و تعد نفسها لتصلي و ترحل رحلتها اليومية.

أمضت قمر أسابيع عديدة بين عملها كبائعة في سوق الخضار وبين ذهابها لنرجس يوم عطلتها لتقضي لها طلباتها و تساعدها في شئون البيت، كانت الأمور ثابتة فلا جديد، هو فقط الروتين اليومي!

لكنها اعتادت قراءة خواطر و كلمات شريف التي تقرأها مرارًا كل يوم و تستشعر كل كلمة في قلبها و تتذوق كل كلمة بمذاقها.

و ذات يوم بينما كانت في غرفتها عقب عودتها من السوق، مستلقية في فراشها وتتصفح أحد الجرائد، إذ جاءتها ابنة أخيها لتشاهد التلفاز، وما أن مكثت بعض الوقت حتى جاءت أخت الطفلة الصغرى و كأنما قبضت على أختها و تصيح بملئ صوتها تنادي على أمها: يامّي يامّي، لاجيتها جاعدة مع عمتي…

ليصدع صوت عبير من الخارج بصياح و غضب: طب أنا جايالها بت المركوب دي.

فانتفضت الطفلة خائفة و ألقت بنفسها بين أحضان عمتها لتنجدها فضمتها إليها قمر وربتت عليها و هي تصيح في الطفلة الأخرى: ما تسكتي ساكتة خلعتي أختك.

فصاحت الطفلة: أمي جاعدة تنادم عليها و هي جال جاعدة عنديكِ! خليها تشبعها جتل.

فتصيح أختها: لا والنبي! غتيني يا عمتي.

فتجيبها قمر و هي تنهض واقفة: ما تخافيش يا جلب عمتك، هو إنتِ عملتِ إيه يعني !

وحملتها وخرجت بها خارج الغرفة لتجد عبير قادمة بكل غضبها و تخلع نعلها و تعزم على ضرب ابنتها

وكانت قمر تتحدث معها لتهدئها: جرى إيه يا عبير! عتعملي عجلك بعجل العيال الصغيِرة!

فصاحت في وجهها: أنا عمالة أنادم عليها ليه ما ردتش عليّ؟

فربتت قمر على الطفلة وأجابت بهدوء: معلهش يا عبير، عيلة و جعدت جدام الكارتون و نسيت نفسها.

قالت ذلك و أنزلت الطفلة أرضًا تربت عليها لتذهب بعيدًا ظنًا منها أن الأمر قد انتهى!

ولكن الطفلة تعرف أمها فما أن لمست قدماها الأرض حتى أسرعت إلى الغرفة لتتخفى من أمها، فكانت تجري و تنظر لأمها فتعثرت و سقطت على ذراعها.

أخذت تصرخ الطفلة صراخًا شديدًا فأسرعت عبير وقمر نحو الطفلة لتفحصاها، لكن عبير دفعت قمر بكل ما أوتيت من قوة فسقطت قمر من فوق السلم على ظهرها، فصرخت هي الأخرى.

لم تتحرك عبير لتنقذ قمر أو حتى تتفقد أحوالها، لكن يبدو على قمر أنها لم تتأذّى؛ حيث بدأت تنهض من جديد لكن بالطبع آلام مبرحة في كل أنحاء جسدها!

حملت عبير ابنتها واتجهت نحو الخارج لتذهب لأقرب مستوصف، وهي تسب قمر و تدعو عليها: منك لله يا جمر! الله ينتجم منيكِ! صدج اللي جال إنك بومة، عتخلصي علينا كلنا يا بَعيدة، يجيكي مصيبة إن شا الله!

وانصرفت عبير، بينما كانت قمر لاتزال تحاول التحرك، فتتحرك قليلًا و تجلس تستريح ثم تتحرك من جديد و بعدها تجلس قليلًا لتستريح.

بعد قليل عادت عبير وهي تحمل طفلتها وقد رُبطت يدها حتى ساعدها، وقد كان مجرد إصابة بسيطة مع بعض الكدمات.

انسحبت قمر وهي تبكي وكانت أيضًا تتألم بفعل سقوطها، مكثت تنتحب حالها و تسأل نفسها عن سر كره الآخرين لها وانصرافهم عنها، حتى قريباتها من نفس ذات الدم قد انصرفن عنها بل و بدأن معادتها أيضًا!

جلست تتذكر كل شيء و تنتحب  من جديد، حتى أرهقها الوجع و البكاء و آلام جسدها فغطت في نومٍ عميق.

استيقظت في اليوم التالي في العاشرة و تشعر بألم يداهم جسدها، كانت تنهض من مكانها بصعوبة، خرجت من الغرفة و تتمنى من داخلها أن تجد الحمام فارغًا و قد كان.

دخلت إلى الحمام و فتحت الماء الدافيء في مغطس الحمام، خلعت ملابسها فنظرت إلى نفسها عبر المرآة لتجد الكدمات واضحة في ظهرها من أثر ارتطامها على السلم بالأمس.

جلست داخل الماء الدافيء لتخمد أوجاع جسدها، ظلت فترة من الوقت و كلما طرق الباب أحدهم تخبرهم أن يذهب للحمام الآخر.

و أخيرًا نهضت وجففت نفسها بهدوء، ارتدت ملابسها و خرجت لتجد زوجة أخيها تقف واضعة يديها على خصرها و تصيح في وجهها: كنّك مأنسانا إنهاردة!

فأجابت قمر بعدم إكتراث: براحتي.

فجذبتها من ذراعها وصاحت فيها: هو إيه دي اللي براحتك!

فجذبت قمر بذراعها منها بشدة فاختل توازن عبير وكادت تسقط أرضًا وأجابتها بجمود: لآخر مرة يا عبير تتحدتي معاي بالشكل دي، دي بيت أبوي عجبك ما عجبكيش ما عيهمنيش،  ارزعي راسك ف الحيطة اللي جارك.

وتركتها تستشيط غضبًا ودخلت غرفتها وبعد قليل خرجت متجهة إلى المطبخ فوجدت عبير شاغلة كل الموقد بأواني كثيرة فنزعت قمر أحد الأواني و نحّته بعيدًا ووقفت لتعد لنفسها أكلها، وبعد فترة أطفأت الموقد و أخذت إناءها و طبق واتجهت لتخرج فوجدت عبير أمامها والتي نظرت بينها و بين الموقد و بين إناءها الذي نزعته من فوق الموقد.

فصاحت فيها: إيه اللي هببتيه دي! شيلتي الحلة و بوظتي الأكل!

فأجابت: وأنا مالي، واخدة البوتاجاز كله لحسابك!

فتغنجت بجسدها و هي تحيط خصرها بيديها: بلاش أطبخ يعني!

فأجابتها تحاول تقليدها: لا بلاش أطبخ أنا! همي من وشي روحي أهو عنديكِ اشبعي بيه.

فصاحت فيها و هي تكشف غطاء الإناء: الأكل باش، منك لله يا بَعيدة!

فتابعت قمر وهي تستكمل سيرها : كلنا مننا لله!

و تركتها تأكل نفسها غيظًا وانصرفت، وظلت طوال اليوم تكاد لا تخرج من غرفتها.

بينما نرجس انتظرت طوال اليوم أن تأتي قمر كما اعتادت لكنها لم تأتي فازداد قلقها عليها، ظلت على حالها حتى جاء ابنها شريف من العمل.

فوجد أمه تجلس بائسة، فهرول نحوها قلقًا: مالك يامّي! تعبانة ولا إيه!

فأجابت بصوت مهموم: جمر ما جاتش إنهاردة.

فتنهد براحة و هو يجلس: الحمد لله إنك بخير!

فصاحت فيه: باجولك البت ما جاتش و إنت تجولي الحمد لله!

فأجاب: يامّي وارد إن جالها ظرف، حد عنديها تعب هي نفسها تعبت، وارد يامّي.

فأمسكت بهاتفها المحمول وقالت وهي تهاتف أحدهم: أنا عتصل بمنصور وأسأله عنّيها، كيف غابت عني دي؟!

فزفر شريف من انشغال أمه الزائد عليها، بينما هي تتحدث: السلام عليكم، كيفك يا منصور؟!

_ وعليكم السلام ورحمة الله، الحمد لله يا حاجة تسلمي من كل رضي!

فتردف مسرعة: باجولك ماشوفتش جمر إنهاردة؟ ما استلجتهاش عند الموجف؟! أصلي مستنظراها م الصبح و ما جاتش لحد دلجيتي!

_ ماعرِفش يا حاجة والله! وجفت استناها عند الموجف ف الصبح لكن ما جاتش، و مادام ما جاتش لدلجيتي يبجى ما عتجيش إنهاردة، إحنا بجينا العصر.

_ طيب، تشكر، مع السلامة.

و أغلقت الخط و وضعت الهاتف جانبًا وظلت تتمايل للأمام و الخلف و هي تخبط على فخذيها بطريقة توحي بقلقها الشديد.

نظر شريف لأعلى بفرغ صبر ثم قال: يامّي بزياداكِ، صحتك، يبجي زين دلجيتي لو ضغطك عِلِى!

فأجابت: يا ولدي البنية وحدانية، كانت يا حبيبتي بتاجي إهني يوم أجازتها.

فأكمل قائلًا: أديكي جولتي يامّي يوم أجازتها، يعني البنية عتنزل كل يوم حتى الأجازة، وارد يعني تكون بتسترِيح.

فتسآلت: طب افرض ما جاتش بكرة برضو!

فأجاب: نبجى نسأل عنيها يامّي، هدّي حالك إنتِ بس يامّي.

_ بس انا ما طبختش أكل جديد يا ولدي، اتلهيت بجلجي على جمر!

فاقترب منها و قبّل يدها وابتسم قائلًا: ولا يهمك يا ست الكل، هروح أتسبح و أغيِر  ونولّفوا مع بعض أحلى غدوة.

فابتسمت له و هي ترفع يديها داعية و تنظر لأعلى: يبارك لي فيك يا ولدي و يفرِحني بيك و بعوضك يا إله السما!

بالطبع لم تعجبه باقي الدعوة، فأمسك بيد أمه لتنهض معه لكن أصابها الدوار فجأة فصاح بخوف: مالك يامّي!

فأجابت بإعياء شديد: مااعرفش ياولدي دوخت مرة واحدة، و مسكني الوجع، عيفرتك نفوخي… يابوي!

فتسآل بأسلوب معاتب: كنّك ما ختيش العلاج و ضغطك عِلي!

فأجابت بوهن: باينلي إكده يا ولدي؛ أصلي انشغلت على جمر طول اليوم.

فصاح بغضب: يا دي جمر! يادي جمر! همي معاي يامّي، هديكي حجنة و ترتاحي ف فرشتك، ماعينفعش تجعدي لحالك إكده، لزمن نشيع نجيب بنتة تخدمك من حدانا م البداري.

فلتردف بوهن: لا أنا عايزة جمر.

فابتسم منها وقال بقلة حيلة: طب إرتاحي دلجيتي.

و صعد بها حتى وصلت لفراشها، وأعطى لها حقنة، ثم تركها، أخذ حمامه وارتدى جلباب البيت ثم أعد وجبة و ذهب لأمه يطعمها.

وفي اليوم التالي استيقظت نرجس لتجد ابنها يجلس في الصالة الموجودة بين الغرف يمسك بمصحفٍ و يرتل آيات كتاب الله.

فاتجهت إليه: اصباح الخير يا ولدي.

فانتبه إليها و نهض واقفًا متجهًا إليها: يسعد صباحك يامّي، بجيتي طيبة!

وانحني يقبل يدها فربتت عليه برفق: نحمد الله يا حبيبي، ماروحتش الشغل إياك!

فأومأ برأسه أن نعم و أجاب: أروح كيف و أفوتك، والله يامّي انخلعت عليكِ.

فابتسمت و هي تجلس: ربي يبارك فيك يا حبيبي!

_ ثواني وأحضِرلك الفطور يا غالية.

ثم وجد تململها فتسآل بلهفة: مالك يامّي! لساكِ تعبانة!

فأجابت: لا ياولدي أنا طِبت بفضل الله وبجيت زينة، بس يعني… يعني…

فنظر لها بشك وهو يفرك لحيته بسبابته وإبهامه قائلًا: جولي يا مّي عايزة إيه بالظبط!

فترددت قليلًا ثم أجابت على استحياء: أصل كان المفروض إن جمر عتجيبلي معاها طلباتي إمبارح و بعدين ما جاتش، فكُت عايزة أروح السوج وأجيب طلباتي أنا.

فأجاب بغضب: سوج إيه يامّي! لما أنا جعدت جارك عشان كُتي تعبانة عايزة تفوتيني وتروحي السوج، شوفي طلباتك و أروح أنا اجيبها.

_ بس انا كُت عايزة أروح بنفسي عشان أطمن على جمر.

فأجاب بغضب: جمر جمر يادي جمر! شكلها إيه الست جمر دي ولا أسأل عليها فين؟!

فأجابت براحة: تسأل عنيها منصور الفررجي، و هي لو لجيتها بتبجى جاعدة جار محله، حكم هو المسئول عنيها ف السوج.

_ ولي أمرها يعني!

_ لا، عيخلي باله منيها عشان ما حدش يضايجها اكده ولا اكده.

_ وبعدين!

_ عمليك طلباتي اللي عتجيبها، وياريت تكون جمر جاعدة هي عارفة طلباتي بالمظبوط و عترمح رمح و تجيبها.

فأومأ برأسه أن نعم بتفهم: حاضر يامّي، لما نشوف الست جمر اللي سحرالك دي!

…………………

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان