رواية ” بعد الليل ” الفصل الثامن والتاسع والعشرون للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل الثامن والعشرون

مرت عدة أيام وقمر في غرفتها منعزلة عن الجميع لا ترغب في مخالطة أحد ولا حتى رؤية أحد، حتى الطعام كانت تختلس النظر وتأخذ لقيمات قليلة تتناولها ثم تعود لغرفتها مسرعة.

أما ضياء برغم غضبه الشديد من أخته إلا أنه يشعر أنها لا تستحق كل هذا الكم من ردة الفعل، هي فقط ذاكرت ودخلت الإمتحان، أي أنها لم تذنب لذلك الحد.

صار يشعر بالتخبط فلا يدري إن كان يزيد من عقابه لها لما تفعله من تصرفات مختلفة عن سائر قريناتها، أم يشفق عليها لما تعانيه باستمرار!

لكنه لازال عند كلمته، سيزوجها لأول من يتقدم لخطبتها، فمهما كان لا بديل للفتاة إلا أن تكون زوجة تحت إمارة رجل يأمر وينهي فيها، وصار يتمنى أن يتحقق ذلك قبل معاودة سفره.

وذات يوم بينما كانت قمر في غرفتها بين وحدتها وبين تلك الجرائد وسطور كتابته التي تعيش بينها، وكيف غرقت بين سحر الكلمات وتفاصيلك العميقة، يبدو أنه قد كُتب عليها أن تتذوق ذلك الحب وتحياه في خيالها فحسب، وصارت تتمنى إن كان حلمًا فلا ينتهي لا بل تتمنى لو تنام نومة بلا استيقاظ، فماذا بالله تفعل في هذه اليقظة القميئة؟!

و فجأة!
دق الباب، دلف ضياء للداخل، تبدو هيئته أنه إما عائدًا توًا من الخارج أو سيخرج، حيث كان مرتديًا جلبابه الصعيدي البني وأسفل منه تظهر الجلباب الأخرى البيضاء وتظهر من الفتحة الأمامية جزء من الصيديري البني من نفس لون قماشة جلبابه وعلى كتفه شالًا ملونًا.

فوجدها جالسة شاحبة إلى حدٍ ما؛ فقد فقدت نضارتها وإشراقها منذ ذلك اليوم، كانت جالسة على فراشها مرتدية إسدال للصلاة يبدو أنها بعد أن أدت صلاتها تكاسلت أن تخلعه وجلست على فراشها بين أوراق الجرائد.

أطال ضياء النظر إليها بينما تعمدت هي ألا تنظر إليه بل وأظهرت تأففها وسخطها من وجوده، تصنعت تصفحها لأوراق الجرائد، فقال وهو و يقلب في أوراق أخرى من الجرائد: هو دي اللي خربتلك عجلك! ما تصدجيش العالم دي، دي عالم فاضية وما لاجياش حاجة تعملها إلا تحرير المرأة وأبصر سخام إيه!

فتابعت بجفاء: إيه اللي جابك عِندي!

_ بجي دي مجابلتك ليّ يا بت أبوي!

_ بس ما تجولش بت أبوي دي!
قالتها بأسلوب ساخط.

_ ما ععلِّجش، خيتي الصغِيرة وماعاخدش على كلامها.

_ طب اتفضل شوف كُت رايح فين!

_ ما رايحش ف حتة، ده في ضيوف جاعدين تحت ف المندرة ومستنظريني، ما عايزاش تعرِفي يطلعوا مين؟!

_ ما عايزاش أعرف حاجة، مفيش حاجة تهمني من أساسه.
قالتها بلا مبالاة وتأفف.

_ دول جماعة جايين يخطبوكي، وجاعدين تحت مع عمامك، وكيف ما جولتلك أول واحد عياجي ويتجدم عجوزك له ياكش بس تعمِري وما تعاوديش تاني وانتِ عاملة زي الجنيه البراني!

فنهضت واقفة فوق الفراش وصاحت: ماعيحصُلش، على جتتي، مش كل مرة تلزجني لأي واحد، فاهم! أنا تميت الواحد وعشرين خلاص يعني بجيت راشدة حرة نفسي وما تجدِرش تغصبني على حاجة، أعلى ما ف خيلك…

وقبل أن تكمل كلمة أخرى كانت قبضته تجذب شعرها وتطرحها أرضًا من فوق السرير ثم انهال عليها بالضرب والسباب من جديد فارتفع صريخها وصوته بالسباب.

فدلفت إليهما عبير مسرعة: يا سواد السواد! إيه اللي جندَلته دي يا راجل! الناس جاعدة تحت وصواتكم مالي البيت، يا مري يا مري! دي الولية أم العريس جال عايزة تشوف عروسة ولدها، عتشوف إيه بس بشندلتها دي! دي أول ما عتشوفها عتسحب ولدها وترمح على برة وتجول يا فكيك!

كانت قمر مبعثرة الهيئة وخصلات شعرها مبعثرة وبعض الدماء تخرج من انفها وجانب شفتها السفلية، فتحاملت على نفسها ونهضت واقفة وهي تمسح قطرات دماءها بطرف كمها وقالت بتحدي: و ديني وما أعبد لنزلهم تحت بشكلي دي وعخليهم يرمحوا رمح!

ثم دفعت عبير جانبًا وهبطت مسرعة وهي تعدل حجابها بقدر ما تستطيع وخلفها يركض أخوها وامرأته ويصيح فيها: إستني عنديكي! رايحة فين يا بت المركوب؟! و ديني لطخك عيارين أخلص منيكِ ما عيكلفوني جوز جنيهات!

لكنها لم تلتفت لأيهما، لم تسمع كل ذلك التوبيخ والتهديد، لم يعد يخيفها شيء، وصلت لباب المندرة و دلفت بهيئتها تلك…

وبمجرد أن وطأت المندرة سمعت صوت أنثوي مفزوع: يا حبيبتي يا بتيّ!

فالتفتت لصاحبة الصوت بعدما طافت بعينيها المتورمتين من أثر البكاء بين كل الجالسين لا ترى سوى خيالات بسبب ذلك الضباب.

لكن صاحبة ذلك الصوت تعرفها عن ظهر قلب، بل سمعتها بقلبها قبل أذنها فاتجهت نحوها مسرعة تدفن وجهها بين أحضانها.

وصل ضياء وعبير إلى المندرة وتفاجئا من هذا المشهد، قمر بين أحضان أم العريس ماذا يعني هذا؟!

لم يندهش ضياء بقدر مااندهشت عبير بل كان الأمر لديها أكثر من مجرد اندهاش، لكن قبل أن تنطق بأي كلمة لمح ضياء الجالس هناك وقد حفظ ملامحه عن ظهر قلب، فصاح فيه: هو إنت!

_ أيوة.

_ وكمان ليك عين تاجي لحد إهني؟!

_ أنا اتحددت مع عم الشيخ مجاهد وهو حَدد معاد وياك.

_ كنّك جاي تصلح غلطتك!

_ غلطة إيه يا جدع إنت! حد يجول الحديت دي!

_ يبجى إنت عتبصبص لأي طالبة عتدرسلها!

_ و يمين الله ما حُصُل جبل سابج ابدًا!

_ تعرف أختي منين؟! وانت لحد علمي جاي من باجور، يعني عتشتغل ف مدرسة ف باجور، يُبجى كيف إنت المدرس بتاعها؟!

_ أنا ما جولتش المدرس بتاعها، و بعدين أنا عارفها من أيام ما كانت عتاجي ف مسابجات أوائل الطلبة عندينا، لكن عمري وجتها ما شوفتها بأي نظرة إلا كونها طالبة متميزة مش أكتر.

_ وإيه اللي عرِّفك طريجها!

_ جابلتها صدفة ف سوج الخضار عتبيع وتنضِّف الخضار وأمي كانَت عتتعامل وياها وعتحبها جوي.

وما أن قالها شريف حتى صاح فيه ضياء: هي مين دي اللي عتبيع ف سوج الخضار يااخينا إنت؟!

وقبل أن ينطق شريف بحرف نهضت قمر واقفة وأجابت بمنتهى الثبات: أيوة ياابو خوه، كُت عطلع يوماتي من فجر الله وأروح سوج الخضار اللي ف باجور وعجعد وابيع خضار.

فصاح بغضبٍ حارق: ياخربيت أبوكِ! عتفضينا على آخر الزمن! لا والله ده انتِ ما عتعمليش حاجة إلا عتفضحينا وبس!

_ طب ما تسأل عن السبب يا خوي ياابن أمي وأبوي، إيه مش كل حاجة وليها سبب ف الدنيا دي!

بدأت عبير تتوتر؛ فلم تتوقع مثل ذلك الموقف أبدًا فقد كان كل شيء يسير في اتجاهه الذي تتمناه، لكن قمر سددت نظرتها نحوها قائلة: كن مرتك ما حكيتلك هي عملت إيه! ولا حتى رجالة العيلة عملوا إيه! بس معلهش عايزة أحذف كلمة رجالة.

فصاح فيها أحد أعمامها: إتحشمي يا بت! كنّك ما شوفتيش رباية طول عمرك!

فتابعت: الراجل اللي كان موجود الله يرحمه! لكن رباني أحسن رباية، الله يرحمك يا بوي!

ثم التفتت بنظرها لعبير مجددًا: هه يا عبير! وإنت بتحكي لجوزك على عمايلي وسخنتيه كيف البابور عشان يهب فيّ جولتيله على عمايلك!

فأجابت بتوتر ظاهر: عمايل إيه اللي عتجولي عليها! بلاش لف ودوران.

فتدخل ضياء: أنا نفسي أفهم كيف تخرجي م البيت و تبهدلي حالك و تشتِغلي؟! هو العند وصل للدرجة دي! ده أنا ببعت اللي يكفيكم و زيادة!

فنظرت قمر وأطالت النظر لعبير التي تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها!

فتابعت قمر قائلة: والله مرتك ما جالت إكده أبدًا! دايمًا عتشتكي م الجلة وكله مفيش مفيش وإني عالة عليهم وكتير عليك تتحملني كل دي،  واللي جاي على كد اللي رايح، والبيت ضيج عليهم عشان انا لساتني جاعدة فيه!

فالتفت ضياء لها: اللي عتجوله دي صُح!

فأجابت بصوتٍ مهزوز و هي تتراجع: لا لا يا خوي، هي بس فهمت حديتي غلط.

فصاحت فيها قمر: فهمت إيه غلط! طردك لي و إنت عتجوليلي دي بيتي وما عتحملكيش أكتر من إكده! وعتعايريني اكمني اتطلجت، زي ما كلاتكم عتعايروني بطلاجي! تعرفوا إيه عني وعن عيشتي اللي عيشتها وأنا على ذمة المحروج دي وأهله! تعرفوا كيف إتذليت وإتهانت واتعاملت معاملة ولا البَهيمة!

كانت تتحدث بانفعال وذاكرتها تستحضر بعض من تلك الصور خاصةً لحظات إعتداءاته عليها بإسم زواجه وحقه الشرعي فتتشنج ملامح وجهها تلقائيًا، ربما لم يلحظ تلك التشنجات والملامح المرتعبة على وجهها، لكن شريف قد فطن لها واستشعر معاناتها.

فتابعت: إوعي تكوني فاهمة إني ما كنتش وعيالك كيف فرحانة فيّ كل ما تلاجيني متهانة ومن اول يوم، ليه يا عبير كت عملتلك إيه؟! عملتلك إيه عشان تحجدي عليّ كل دي! مش ذنبي إن سجف طموحي عالي وعايزة أكمل تعليمي، ولا إني بتعامل بالحسنى مع اللي جدامي، كان ممكن تجلديني بدل ما تجوّمي عليّ العيلة كلاتها، والله ما عارفة بعد كل عمايلك دي حتى أكرهك ولا أشفج عليكِ!

فأمسك ضياء بساعد عبير بقوة وهو يرجها بشدة ويصيح بغضب حارق: بجى إنتِ السبب ف كل دي! وكماني عتفتري على أختي وتتهميها وتجلبيني عليها، طب ويمين الله ما انتِ جاعدة فيها وعتروحي ما ابوكي اللي جاعد دي، يلا روحي وانتِ…

فصاحت قمر وهي تتجه مسرعة نحوه: ما تجولش إنك عتطلج مرتك وتشرد عيالك، دي اللي ربنا جدّرك عليه!

_ عايزاني أعمل إيه طيب بعد كل المصايب دي!

_ وكان فين عجلك يا ولد أبوي وإنت عتسمع منيها وتصدج وماتعديش الكلام حتى على عجلك توزنه؟! زي باجي العيلة جالتلكم جمر المطلجة جاياكم تخطف رجالتكم بعد مااتطلجت، الكل جال يا لطيف و طرد جمر المطلجة، صُح مش دي اللي حصل!

ثم تابعت: الغلط عليكم كلاتكم، إنتو اللي لسه عتفرِّجوا بين الواد والبت، و عتعوزوا تخلصوا م البت و تلزجوها لأي واحد ياجي يشيل ، إنتو اللي عتملوا عجولهم من صغرهم وتطلعوهم إن البت مخلوجة ف الدنيا عشان تخدم الراجل وتكون تحت أمره حتى وهي ف بيت أبوها عيخلوها تخدم أخوها ويفضلوه عليها ويدوه كل الحجوج كنّه ولي أمرها، إنتو اللي عتطلعوا البنات ما تفكِرش إلا باليوم اللي تتجوز فيه مش تتعلم وتخلص علامها؛ لأن العلام حداكم حاجة ما لهاش جيمة فمنين ما ياجي العريس تجعد م المدرسة حتى لو عيلة ما تميتش التمانتاشر ولا تعرف ف الدنيا السما م العما، المهم نخلص م الحمل ونجوزها صغيرة، وبعد جوازها تحط ميت جزمة ف خشمها وتتحمل إيش يكون بالذي تنضرب، تتهان، … يحصل ما يحصل فيها لكن تُنطج ولا تشتكي …. لا ما يصُحش، لا وكمان بجى لو اتطلجت دي تُبجى الطامة الكبرى على حج وطبعًا هي اللي غلطانة…

جولولي دي يرضي ربنا! عتحللوا اللي على هواكم وتحرموا اللي مش على هواكم، الواحد منيكم ياخد البنتة ويعمل ما بداله فيها ولا حد عيجوله حاجة، و طبعًا عيجولك ربنا جال..  واضربوهن…
ربنا جال..  مثنى وثلاث ورباع…
ربنا جال.. الرجال قوامون على النساء..

طب ما تكملوا الآية مرة ف عمركم، مااتجال برضو استوصوا بالنساء خيرًا..
اتجال..  خيركم خيركم لأهله
اتجال..  رفقًا بالقوارير

عتعلجوا المشانج لكل واحدة منينا لو نطجت بحرف، وستنا عائشة كانت عتراجع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، عمره ضربها ولا شتمها ولا عنّفها حتى! ده وجّف جيش كامل عشان يدور على عجدها اللي انجطع ف الطريق…

حرام عليكم كل حاجة عتعلجوها على شرع الله وإنتو ما تعرفوش حاجة عن شرع الله دي..

وأنا بجى غير أي واحدة فيكم وعكمل علامي، وما عجبلش أي غلط ولا إهانة من أي حد مين يكون!

قالت الأخيرة بصياح وهمت بترك المجلس، لكن ناداها شريف: إستني يا جمر .

فتوقفت مكانها فأشار لها بالجلوس وأشار لضياء، فجلس الجميع، فقال: إحنا إنهاردة جايين عشان نطلب يد أختك جمر، كُت اتحدت ويا عمي الشيخ مجاهد بخصوص الموضوع دي من جبل حتى الإمتحانات، وهي ما عِندهاش أي خبر بالموضوع دي، و دلجيتي إحنا جايين ندخل البيت من بابه، وجددت البيت من كافة شيء، و اللي تطلبوه تحت أمركم…

فتدخلت أمه قائلة: جمر دي والله جاعدة ف جلبي ومربعة! و ما تخافش عليها والله! دي بتيّ اللي ما خلفتهاش!

فأجاب ضياء بهدوء: الكتاب عيبان من عنوانه يا أستاذ، وأنا محجوجلك لو كُت كتِّرت ف الحديت وياك!

فأجاب شريف: ما جراش حاجة يا أستاذ ضيا، ما محبة إلا بعد عداوة!

فتدخل الشيخ مجاهد قائلًا: كنّكم عتتفجوا ونسيتم أهم حاجة، رأي صاحبة الشأن!

وهنا لم تستطع قمر البقاء أكثر من ذلك من شدة خجلها من الموقف، وقد كانت تجلس على مقربةٍ منه، فنهض مسرعًا لا إراديًا نحوها…

وقف أمامها مباشرةً فأخفضت نظرها لأسفل في خجلٍ ظاهر، فتابع بهدوء: عايزين نعرِف رأيك يا عروسة.

كانت تشعر بتوتر شديد واضطراب غير عادي ولا تعلم كيف تخبر عن رأيها صراحةً ولا حتى تستطيع كيف ترفع عينيها لترى من حولها!

فتابع شريف قائلًا بنفس هدوءه: ترضي بيّ يا جمر، ترضي بيّ زوجك على كتاب الله وسنة رسوله وبما يرضي الله!

فهمست: عليه الصلاة والسلام !

وكأنه قد تبدل حالها، فكيف ذلك وقد كانت منذ لحظات فقط تناطح الجميع وتتحدث بمنتهي الثبات والقوة.

فنهض ضياء واقترب قائلًا: صحيح يا بت أبوي كُت ناوي أجوزك لأول واحد يتجدملك، لكن دلجيتي عاخد رأيك وماعجبركيش على حاجة، و عتشرِّط عليه كماني تدخلي الجامعة وتكملي علامك كيف ما تحبي، هه جولتي إيه يا بت أبوي!

فهمست مقتربة من أخيها: يُبجى كيف ما تحب يا ولد أبوي!

……………………

الفصل التاسع والعشرون

_ كيف ماتحب يا ولد أبوي!
همست بها قبل أن تسرع تاركة المكان وهي في قمة خجلها!

تبعها شريف بعينيه ونبضات قلبه طبول تقرع لكنه تدارك نفسه مسرعًا؛ فالوقت غير مناسب ليسمح بفيض مشاعره بالفيضان، وعاد جالسًا مكانه وابتلع ريقه متصنعًا الهدوء: هه يا أستاذ ضيا، طلباتك!

فجلس ضياء هو الآخر ونظر لعبير فانطلقت تاركة المجلس هي الأخرى، ثم أجاب: ما تواخذنيش يا أستاذ شَريف، إنت جاي تخطب أختي وجاي لحالك! فين بجيت عيلتك ولا انت…

فقاطعه شريف: لا طبعًا أنا مش مجطوع، عمامي موجودين وولاد عمي كماني، لكن كيف ما عمي الشيخ مجاهد وعّاك إننا أصلًا م البداري يعني مسافة كَبيرة جوي من إهني لهناك، أنا جيت ويا أمي نتحدتوا في الموضوع ونتفج وبعد إكده عشيع لهم ياجوا إهني نجرا الفاتحة ونجيب الدهب، وعل الأغلب الفرح عينعمل هناك ف البداري ف بلدنا.

_ ولما انت م البداري إيه اللي جايبك إهني!

_ جالي تعيني ف باجور فنجلنا أنا وأمي وأبوي الله يرحمه، ويمكن بعد إكده ننجل لأسيوط نفسها لو بعد الدكتوراة إتعَيَنت ف الجامعة.

_ إن شاء الله!

فقالت الأم: طب والله فكرة الفرح ف البداري زينة جوي، نعجد ونعمل الليلة وبعد إكده العريس ياخد عروسته عل بيت وحديهم وأنا تنّي جاعدة شوية ف البداري فترة إكده.

فالتفت إليها شريف فتابعت: أيوة هو دي الكلام المظبوط، وبعد إكده إبجو تعالوا خدوني، هو يعني أنا عروح فين؟!

تم ذلك اللقاء بكل تفاصيله وطلبات الزواج بما هو متعارف عليه في أعرافهم.

وبالفعل بعد عدة أيام جاء شريف بأعمامه وأبناء عمومته لقراءة الفاتحة ثم ذهبوا معًا جميعًا لشراء الذهب، واتفقوا بالفعل على أن يكون عقد القران وحفل الزفاف في بلدة أهله؛ ليوافق التقاليد.

كما أن ذلك قد وافق هواه فلم يعد بحاجة للدخول على عروسه كأداء واجب ثم النزول لإكمال الليلة وسط رجال العائلة، بل متى يريدان يذهبان تاركي المكان لمكان آخر تمامًا دون أي إزعاج.

كان كل شيء سريعًا، فعقب شراء الذهب لم يعد متبقيًا سوى أسبوعٍ واحد على الزواج؛ أي منذ مجيئه لطلب خطبتها حتى موعد الزواج لم يكمل ثلاثة أسابيع، خاصةً وقد انتهى من تجهيز كل شيء وقد ذهب ضياء، أعمامها وأبناء أعمامها لرؤية بيت الزوجية عيانًا، وبالفعل وافق ضياء على هذه السرعة لينتهي من هذا الأمر قبل سفره.

أما عن قمر فكانت كالمغيبة؛ فمن كثرة تمنيها له عندما حدث ما ترجوه لم تعد مصدقة، بل لم تعد مدركة إن كانت يقِظة أم تحلم، حتى إنها لا تستطيع تحديد كل مشاعرها الآن!

تولت عبير وبنات عمها فرش أشياءها من جديد؛ فلا يمكن لها التواجد في بيت الزوجية إلا يوم دخلتها.

وبالطبع لم يتقابل العروسان إلا يوم قراءة الفاتحة وقد أخذ بطاقة العروس يومها لتجهيز أوراق العقد، ولم يتقابلا بعد ذلك.

وجاء يوم الزواج وكانت هذه المرة قد صحبتها نرجس بنفسها لتأجير فستان زفاف مناسب لها كما حجزت لها صالون تجميل في مدينة أسيوط نفسها؛ فكان أكثر رُقيًّا من ذلك السابق.

وتكرر نفس المشهد عند بيت العروس من عربات الأجرة الواقفة لتركب فيها نساء العائلة المزينة ببهرجة وأبناءهم وأخرى للرجال، وانطلقوا جميعًا لمكان صالون التجميل.

وصلوا جميعًا فكان في الانتظار شريف في حلة سوداء رائعة مهذب اللحية ومصفف شعره بحرفية فبدا بهيئة أكثر مدنية.

سلم على أهل العروس من الرجال كما سلم أقاربه على أهل العروس، ثم اتجهوا جميعًا لداخل الصالون.

وبعد قليل خرجت العروس ووجهها مغطى متأبطة عريسها الذي تعمّد ألا يدقق النظر بها؛ لا يريد لمشاعره أن تظهر الآن.

أما عن قمر فمنذ أن كانت بداخل الصالون طوال اليوم وشريط زفافها الأول يتكرر أمام عينيها رغم اختلاف تفاصيل اليومين، وكلما صرفت تلك الذكرى أتتها من جديد، وكأنها قد نسيت أن شريف هو أمنيتها والوحيد الذي تحرّك له قلبها، لكن ماذا لو تحوّل بعد الزواج ليكون مثله مثل كل من حولها؟ و يعاملها مثلًا ببهيمية بحتة!

ظلت هكذا شاردة لم تشعر بالطريق ولا حتى بتلك العينين التي تسترق النظر إليها من حينٍ لآخر، يود لو يخبرها أنه يقرأ قلقها هذا!

وصل العروسان لبلدة العريس ليجدون بيتًا كبيرًا فاخرًا مزدانًا بالمصابيح الملونة، الزينات وسرادق ضخم مملوء بالمدعويين، حتى سرادق الطباخ كان كبيرًا أيضًا وكميات الطعام التي تقدم للمدعويين رجالًا ونساءً كميات مهولة.

لم يكن شريف قد أخبر أحد من أهله أن قمر مطلقة، حتى عندما جاءوا وقت قراءة الفاتحة لم يخطر ببالهم مثل هذا السؤال، خاصةً وأن ملامح وهيئة قمر طفولية، لا تدل إطلاقًا إلا أنها آنسة صغيرة.

لكن بالطبع الأمر قد انكشف وقت عقد القران وارتسم رد الفعل على وجوه الجميع بشكلٍ واضح؛ فبدوا أكثر انزعاجًا أن ابنهم سيتزوج من مطلقة، وصمة العار! وبدأ يسمع همهمات وتمتمات بردود أفعالهم، لكنه تصنع التجاهل واللامبالاة.

لكن كما نعلم أن نساءهم لا يمكن أن تسكتن عن مثل هذا إطلاقًا، فقالت لها عمته بحدة وعي تقوس شفتيها بعدم رضا: بجي إنتِ اللي واد اخونا اتجوزها! مطلجة!

فأجابتها نرجس: مالكيش صالح إنتِ، جولي مبروك أجليها.

_ كيف رضيتِ يا نرجس إن ولدك الوحيد يتجوز واحدة كانت متجوزة جبله وهو مش أول راجل يدخل عليها؟!

_ رايدها وعايزها وأنا كمان عحبها وعداها بتي، لو كلمة مبروك تجيلة على جلبك يبجى كفياكي حديت ماسخ!

فتأففت المرأة ونهضت، وكان كل هذا على مسمعٍ ومرأى من قمر، رغم أنها بدت اليوم رائعة الجمال، بفستانها المتناسق، المناسب لحجمها مع طريقة تزيينها الهادئة بلا صخب جعلت منها حورية حقيقية، وهذا التاج الموضوع فوق رأسها توّجها سلطانة، لم تعلم أنها أصلًا متوّجة كسلطانة قلبه.

انحنيت نحوها عبير مقربة وهمست إليها: الولية عمته دي شكلها محراج شر.

فنظرت قمر أمامها ولم تعقب، فتابعت عبير: كنّك لساكي زعلانة مني، طب والله فرحنالك بجد يا جمر.

فتنهدت قائلة: عارفة، باين عليكِ .

_ طب جولي إنك سمحتيني يا بت عمي.

_ سامحتك يا عبير.
قالتها بطريقة جافة.

_ بس مش حساها يا جمر خارجة من جلبك.

_ أكدب عليكِ لو جولت خارجة من جلبي، لكن مع الوجت عروج وأنسى، إنسِي يا عبير إنسِي، دايمًا المشغول بغيره بيبجى عنديه وجت كَتير فاضي، حاولي تشغلي وجتك وساعتها ما عتلجيش وجت تنشغلي بيه بغيرك.

فتابعت قائلة: بس المرة دي إنتِ فعلًا جمر، طب والله جمر والفستان عياكل منيكي حتة! مش زي المرة اللي عدت.

_ سايج عليكِ النبي ما تفكريني! سيبيني عمالة أشيل الذكرى السودة دي بالعافية.

فهمست لها: عتنسيها، المرة دي هو عشجك بجد.

فأطالت لها قمر النظر ثم أخفضته ولم تعقب، وبعد فترة ليست بالطويلة جاء العريس ليصحب عروسه ويذهبا تاركين الفرح وذاهبين لبيت الزوجية.

عانقت نرجس كلًا منهنا عناقًا حارًّا بدمع عينيها، ثم انصرفا ومعهما أهل العروس ليقوموا بتوصيلها لبيت الزوجية.

ولازال الصمت سيد الموقف بينهما حتى وصلا أخيرًا لبيتهما، ودعهما الجميع وانصرفوا، فلم يعد أهلها بحاجة للإنتظار خاصةً وهي ليست بِكرًا!

دلف العروسان للداخل وصعدا على السلم الداخلي وكانت تتطلع من حولها وهي ترى هذه التجديدات التي قام بها شريف بالفعل، بالإضافة لتجديد كامل للمطبخ ودورات المياه، وأدخل حمامًا بداخل غرفة النوم والتي بدت رائعة وحديثة من الخشب الزان البني الداكن.

والستائر في غرفة النوم من الشيفون جمع بين اللونين البيج والبنفسج الهادئ، وكانت السجادة أيضًا خليطًا من اللون البنفسجي.

وبينما كانت قمر تتطلع لما حولها بدقة تفاجئت بشريف يقول: متوضية يا جمر كيف ما وصيتك!

فأومأت برأسها أن نعم وهي تجيبه بخفوت: أيوة وصليت العشا كماني.

فأومأ برأسه أن نعم وهو يحضر سجادتي الصلاة ويفرشهما أرضًا، بينما هي سحبت إسدال للصلاة كان معلقًا وارتدته فالفستان ضيق من الأعلى.

بالفعل صليا معًا ركعتين، كان كل منهما يدعو بالتوفيق وصلاح الحياة.

وبعد التسليم نهض شريف ونهضت أيضًا قمر وخلعت إسدالها علقته ولازال التوتر بادٍ عليها، يهاجمها من ذاكرتها مشهد هجوم زوجها الأول عليها وكيف كان ينهل منها بحيوانية مقززة! فتغمض عينيها وتهز رأسها بسرعة كأنها تصرف تلك الفكرة عنها، كان شريف يتابعها ويقرأ ذلك الرعب في عينيها.

كانت تحاول إخفاء ما بها عبر تطلعها للغرفة، فسألها: هه عجبتك!

فأومأت برأسها أن نعم وهمست قائلة: بصراحة الأوضة وكل التجديدات جميلة جدًا يا أستاذ شَريف.

ففتح عينيه على وسعهما معقبًا: أستاذ يا جمر! أنا بجيت جوزك.

فابتلعت ريقها وأومأت برأسها أن نعم، فتابع: أنا عايزك تطمني تمامًا يا جمر، أنا جدمت ورجك وعنستنى ونشوف عتجيلك كلية إيه وعتكملي كيف ما تحبي!

فتهللت أساريرها وقالت بسعادة أشرقت وجهها: صُح فعلًا يا أستاذ شَريف!

فرفع حاجبيه قائلًا بتوعد مصطنع: تاني أستاذ، يبجى مفيش فايدة لازم تتعاقبي.

فاختفت ابتسامتها ووجمت ثم قالت بقلق: عتعاقب!

_ طبعًا، ولازم تتعودي إن أي غلط له عقاب.

نظرت إليه ولم تعقب، لكن بدأت عيناها تتغرغران بالدمع، فخشى شريف أن يتطور الموقف فسارع قائلًا: بوسيني.

فوجمت وفرغت فاها، فأعاد الكلمة: باجول بوسيني، دي عقابك.

تلون وجهها باللون الأحمر من شدة خجلها وفركت أصابعها بعضها ببعض، فرغم كونها قد سبق لها الزواج لكن ليس لديها أي فكرة عن كيفية التعامل، وبعد تفكيرٍ طويل وصمتٍ عميق كان شريف يجاهد نفسه لألا يضحك، قالت: طب اجعد ع الكنبة دي.

فزم حاجبيه بعدم فهم لكنه جلس، فتابعت: وخلي يدك جارك.

_ ما اربعهم أحسن!

_ يبجى أحسن، وغمض عينيك كماني.

ففعل كل ماقالته بتسلية، فاقتربت منه بحذر وقبلته من رأسه بسرعة، ففتح عينيه قائلًا: إدي! ده إنت لو بتبوسي واد أخوكي عتبوسي أحسن من إكده، لا ما ينفعش، أدي عملك بإتقان.

_ هه!

_ أدي عملك بإتقان ، واديني أهو مربع يدي ومغمض عيني .

فأعادت الكرة من جديد لكن من سرعتها تعثرت في طرف فستانها وكادت تسقط فأمسك بها من خصرها ثم أجلسها على رجليه.

وكانت في شدة خجلها، أما هو فكان يتابعها و يحملق بكل إنش فيها، كم هي جميلة! كم هي بالفعل قمر!

فقالت محاولة التغلب على خجلها: عتفكرني بابوي الله يرحمه و هو عيحطني على رجله إكده وأنا صغيِرة.

_ طب ما أنا أبوكِ وأخوكِ وجوزك وحبيبك، لما تغلطي عحتويكي كيف بنتي الصغيِرة، ولما تحبي تحكي وتفضفضي عتلاجيني أخوكِ، أما لما تعوزي حضن حنين تدفي فيه فماعتلاجيش غير حضني أنا.

كم أخجلتها بشدة تلك الأخيرة!
فالتفتت إليه تنظر إليه وتحملق في ملامحه، تلك الملامح التي كثيرًا ما سهرت تحملق فيها عبر صورته الصغيرة بالجريدة، لكن هاهو أمامها، فابتسمت وقالت بتلقائية: شكلك حلو ف البدلة.

_ وإنتِ جمر ف الفستان.

_ أول مرة آخد بالي من لون عينيك، كنّها عسلية ورموشك كماني طوال وحلوين جوي سبحان من صور!

_ سبحان من صور!
دي أنا اللي اجولها من شكل الجمر اللي بين يدي، لكن لو عايزة تعاكسيني ماعِنديش مانع طبعًا!

فابتسمت بخفة ثم نهضت وحملت فستانها واتجهت نحو المرآة أمام طاولة التزيين، كانت تتفحص عطوره الخاصة؛ فتمسك بكل زجاجة وتفتح غطاءها وتشمه بسعادة، حتى أمسكت إحداهم واتسعت ابتسامتها بشكل ملفت، ثم وضعت القليل بين يديها وفركتهما معًا وأخذت تشمها وهي مغمضة العينين.

فتحت عينيها فوجدته خلفها مباشرةً ثم تسآل: للدرجة دي عجباكي!

_ أصل أبوي الله يرحمه كان عيحط من النوع دي، بحبها جوي.

_ عتحبيها جوي!

قالها بنبرة مختلفة قد أصابتها بقشعريرة سرت في بدنها، رفع عينيه لذلك التاج ومد يده يفكه بهدوء، ثم فك حجابها بهدوء شديد، فظهر شعرها فجذب ذلك المشبك الذي كان يمسكه فانسدل لأسفل كتفيها بقليل فأخذ يخلل أصابعه برقة بين خصلات شعرها ووجهه مبتسمًا وقال: يعني عجباكِ عيني ورموشي! أنا بجى عاجبني كل حاجة فيكِ… عينيك طيبتك… أخلاجك… طبعك… كل حاجة.

_ إيه عتشعِر جصيدة ف جمالي يعني!

_ ومين جال إني ما كتبتش عنك؟! كل كلمة كتبتها من يوم ما ظهرتي ف حياتي كانت من جلبي ليكِ انتِ.

_ من جلبك!

_ كنّك ما حستيش!

فسكتت، فتجرأ و ضمها إليه وتابع هامسًا لها: ما حستيش بكل إحساسي… بشوجي ليكِ… بإهتمامي… بغيرتي عليكِ… عايزة تجولي ما حستيش بكل دي!

فأبعدها عنه برفق و نظر في عينيها هامسًا: ماحستيش! إني بحبك…

ثم أكمل: أيوة بحبك وبتمناكي من زمان، ونفسي بس ربنا يجدرني أسعدك واعوضك عن كل الوحش اللي كان ف حياتك، ععرفك إنك إتجوزتي راجل بحج.

فأومأت برأسها أن نعم بسعادة، ثم أكمل بمكر: بس الأول لازم تتعملي لما أجولك تبوسيني تبوسيني كيف…

فاقترب منها وقبل خدها برقة شديدة كادت تفقدها و عيها فضمها إليه، وبعدها بدأ يشعر بيديها تشدد عليه في ضمتها له، بينما هي بدأت تشعر بأصابع خفيفة تعبث في سحائب فستانها وما كانت لحظات حتى سكتا عن أي كلامٍ مباح…

…………………..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان