رواية “المعجبة المهووسة” الفصول من الثالث عشر حتى السادس عشر للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل الثالث عشر

شبك جلال يدها بيده وذهب بها نحو الحافلة، ركبا ثم تحرك بالجميع، سارت الحافلة كثيرًا فالمسافة طويلة حقًا وقد استمرت لعدة ساعات كانت فيها مها جالسة جواره ولازالا متشابكا اليدين وقد أراحا رأسيهما على بعضهما البعض وذهبا في سِنةٍ من نوم.

وأخيرًا وصلوا إلى دهب وكان أولًا مكان السفاري ومتعة السير في الصحراء فركبت جالسة خلفه وقد ربطا ذلك الشال على وجهيهما ولا يُرى إلا عيونهما وقبل أن يتحرك بها جلال جذب بذراعيها إليه وأغلقهما على خصره وطلب منها لتتشبث به وقد فعلت وأسندت برأسها على ظهره وانطلق جلال.

سار الجميع خلف الدليل وسط الجبال الرائعة حتى وصلوا جميعًا لمنطقة ما وسط الصحراء وبدأ البعض في تسلق جبل موجود هناك وقد صعد جلال ومها فوق الجبل والتقطا العديد من الصور فالمنظر حقًا بديع خاصةً مع وجود بعض النخلات رائعة المنظر.

وحان وقت النزول وقد كان ذلك صعبًا فالجبل حقًا عالٍ وشديد الانحدار وبدت مها خائفة رغم ارتداءها لحذاء رياضي.

كان جلال بدايةً ممسكًا يديها معاونها على الهبوط معه لكن بدأت تنزلق من حينٍ لآخر فلم يجد بدًا إلا أن يحملها على ظهره فتشبثت بكتفيه جيدًا وبدأ ينزل بها باحتراسٍ شديد، أغمضت عينيها من حينٍ لآخر حتى لا تنظر إلى أسفل وكان يضحك عليها فتفتح عينيها وتميل لترى وجهه، كم هو وسيمًا عندما يضحك! واكتشفت أن لديه غمازتين طوليتين كانت لا تظهر إلا عندما يضحك خاصة مع وجود تلك الشعيرات الخفيفة على وجنتيه فكانت تختبئ خلفها حيث لم يكن يحلقها تمامًا بعكس غمازتيها الأكثر وضوحًا فكانت تضع يدها تعبث بهما فيهددها أن سيتركها تسقط فتعود للتشبث به مجددًا.

ونزل الجميع أخيرًا وجلسوا يتناولون الشاي البدوي المميز ثم عادوا من جديد لنقطة انطلاقهم.

ركبوا السيارة مرة أخرى لاستكمال برنامج الرحلة حيث البحر والاستمتاع بالشعب المرجانية في منطقة (البلوهول) الرائعة.

وصلوا بعد فترة لم تتجاوز بضع ساعات وأخذ كل فرد الزي الخاص بالغطس لكن دون إسطوانة الهواء فهذا المكان لا يغطس فيه لأعماق بل يمكنك المشاهدة من أعلى وأنت قريب من السطح لدرجة أنك لو لم تسبح باحتراس لصدمت أحد تلك الشعب، استعدوا جميعًا ونزلوا في الماء واستغرقت رحلة المشاهدة فيها حوالي ساعة وأكثر وبعد انتهاء تلك الرحلة ظل جلال ومها يعبثان بالماء ودخلا في المنتصف حتى لا يصطدما بالشعب المرجانية ويهبطا لأسفل ثم يصعدا لسطح الماء مرة أخرى في مرحٍ وضحك.

كم هو ممتع أن تسبح وتحتك آلاف الأمتار! فيكون لديك شعور كأنك تطير وأنت لا تلمس شيئًا بقدميك.

وأخيرًا خرجا وكانت مها قد بدأت تشعر بالدوار لكنها كانت تقاوم ذلك الشعور لتستمع بهذا اليوم الرائع، خاصةً وهي ترى مزحات جلال وضحكه معها فكأنما تبدل اليوم لشخصٍ آخر.

حملها جلال على ظهره مجددًا وجرى بها بعيدًا على الشاطيء متلمسًا بقدميه ماء البحر الأحمر أو بالأدق ماء خليج العقبة.

وعندما ابتعدا عن الفوج أو ربما شعرا بالإجهاد جلسا معًا متجاورين وهو يضمها إليه وينظران ناحية البحر مقبّلًا كتفها ويدها من حين لآخر.

همس جلال: لا أصدق نفسي، كأنك صامتة بلا ثرثرة!

فضحكت وخبطته على كتفه ثم أعادت رأسها من جديد وقالت: أريد معرفتك أكثر، احكي لي عن نفسك يا جلال.

فقبّل كتفها ثم أسند رأسه عليه وقال: كنت الطفل الأول لأهلي بل لعائلتي بأسرها ولكِ أن تتخيلي طفلًا يعيش وحيدًا قرابة الثمان أعوام.

– هل تقصد أنك تبلغ ثمانية وثلاثون عامًا؟!

– أجل!

– لا يظهر هذا عليك إطلاقًا، إذن فأنت أكبر مني بعشرة أعوام.

– أنتِ أيضًا تبدين أصغر من ذلك، المهم عشتُ طوال تلك الأعوام يكاد لا يرفض لي أي مطلب خاصة إن كانت عائلة بمكانة عائلتي ومستواها.

– وخاصةً إن كنت طفلًا جميلًا.

فضحك ثم أكمل: بعد ذلك حملت أمي بأخي ياسين وكانت متعبة فقررت جدتي لأبي أن تأخذني لديها لتريح أمي وقد وافق والديّ على ذلك، وربما ذلك أكبر خطأ ارتكباه.
كان جدايّ يدللاني أكثر من اللازم ولا يرفضان لي أي طلب مهما كان، حتى إني كنت أصمم أن أذهب للشركة مع جدي، لم تكن وقتها سوى شركة صغيرة ولم تكن بذلك التوسع ولم يكن هناك هذه الفنادق بعد، ربما ذلك الشيء الوحيد السوي الذي حدث لي لأني قد تعلقت بالشركة من صغري.
وضعت أمي أخي ياسين ومر قرابة الثلاثة أعوام وبدأ والديّ يطلباني من جدايّ لكن وقتها توفى جدي فطلبت جدتي من أبي أن أظل معها وكنت أرحب بذلك جدًا فكنت في المرحلة الإعدادية وياسين طفل صغير لم يدخل الحضانة بعد.
وعام بعد عام وأنا أعيش مع جدتي وأذهب للعمل في غير أيام الدراسة ثم التحقت بالجامعة وتعرفت على زميلة هناك وارتبطت بها كما تعرفت على مجموعة أخرى يمكن القول أنهم أصدقاء السوء.
كنا نذهب للملاهي الليلية ونشرب لكني كنت أخشى الإكثار من الشراب بعكسهم، وإذا بي أستمع إلى فضائحهم عندما يثملون ويبوحون بكل شيء بشكل لاإرادي وصرت لا أشرب إلا القليل لأستمع إليهم خصيصًا.
لكني صُدمت مما سمعته، علمت إلى أي مدى يكرهونني ويحقدون عليّ ولا يتقربون مني إلا من أجل منفعتهم وعلمت أيضًا عن تلك الزميلة نفس الشيء أنها تتقرب مني من أجل تلبية طلباتها والخروجات وغير ذلك.
بعدها فقدت ثقتي بهم وبأي إنسان وأدركت أن لا علاقة يمكن أن تحدث إلا من أجل المصلحة وتغيرت معهم ووضعت ذلك المبدأ أمام ناظريّ مدي الحياة، لا ثقة لا حب لا شيء سوى المصالح.
وتوفت جدتي لكني كنت اعتدت على العيش بحرية ومعني عودتي لوالديّ أني سأفقد حريتي واكتفيت بزيارتهم مرة كل أسبوع ومنذ يومها وأنا أعيش في فيلا جدايّ حتى الآن بينما ياسين عاش وتزوج في فيلا والدي.
كنت أرى أخي يشتاق إليّ ويحبني ويعاملني بلطف لكني كنت أتعامل معه مثل غيره، لقد أمضيت أعوامًا حتى اقتنعت أنه يحبني دون أي مقابل.
كم ظلمته وعاملته أسوأ معاملة! كم غِرتُ منه لأنه هو من تربى بين والدي! لا أدري من أين كان يأتي بذلك الصبر معي! ولا أدري كيف امتص كل أفعالي معه وسامحني ببساطة!
كنت أغير من بساطته وتلقائيته في التعامل وحب الآخرين له، وأنا أعلم أن لا أحد يحبني لكن أعود سريعًا وأنفي كل شيء لا حب لا صداقة، المصالح أولًا.

– وماذا عني؟

– لا أدري، ربما لأنك عنيدة، بسيطة، تلقائية ولا تتكلفي أو تزايدي في تعاملك معي… صدقيني لا أعرف.

ثم ضحك وقال: ربما لضحكتك الساحرة هذه، لون عينيك غير العادية، نظرتك هذه التي مت عشقًا فيها، كأنك تزدادي جمالًا كل يوم، وأن جمالك هذا لن يتكرر إلا ربما لو نسخة مصغرة منك، أخشى عليكِ حتى من عيني، أعتقد أن الأخريات مهما حاولوا تقليدك فسيفشلوا حتمًا بل و ربما يصابوا بالعقد النفسية.

ضحكت مها بشدة قائلة: ما كل هذا؟! أراك صرت شاعرًا اليوم.

– اليوم وكل يوم، مادمتِ ستظلين معي ولي وحدي، مها علينا التزوج في أقرب وقت.

– لماذا هذه العجلة؟ لم نتعرف على بعضنا بشكلٍ كافٍ، فهذا اليوم الأول لنا، كما أن أخي الأكبر مسافرًا ولا يمكن اتخاذ أي خطوة قبل مجيئه.

بعدها جاء موعد وجبة الغداء وأكل الجميع لكن مها لم تأكل سوى لقيمات فلازالت تعاني من الدوار.

وفي طريق العودة كان  الجميع راكبين الجِمال حتى مكان السيارات حيث السير بالجمال بين الجبال والبحر مع وقت الغروب، كم هو بديع!

ركبت مها أمام جلال على نفس الجمل والتي صرخت مع نخعة الجمل لينهض واقفًا فأمسكها جلال بإحكام، كان محتضنًا خصرها بيد وبالأخرى ممسكًا في الجمل ويكمل احكامه عليها برأسه على كتفها.

ورغم جمال الرحلة والمشهد والجو العام إلا أن اهتزاز الجمل هكذا قد زاد من شعور مها بالدوار وما أن وصلت حتى جريت بعيدًا للتقيؤ ثم أسندها جلال فقد شحب وجهها فجأة وبدا عليها الإعياء وبمجرد ركوبها للسيارة حتى فقدت وعيها بالكامل.

الإجهاد، قلة النوم والطعام و ربما ضربة شمس أيضًا وبعد عدة ساعات وصلوا جميعًا إلى الفندق، حاول جلال إيقاظها فلم تتحرك فحملها وصعد بها.

وفي الصباح التالي
خرج جلال من الحمام مرتديًا رداء ما بعد الاستحمام  ويبدو أنه كان يتحمم من خصلات شعره المبتلة ثم اتجه جوار النائمة في فراشه لييقظها……

(الفصل الرابع عشر)

جلس جلال جانبها ييقظها عابثًا بخصلات شعرها ممسدًا عليها برقةٍ وشغفٍ كبير، فمن يرى جلال اليوم يرى شخصًا آخر بهذا الوجه المتيم وهذه النظرة العاشقة والعين اللامعة من سعادة الحب.

همس جلال بحنان: مها، موعد الإفطار الآن أم أطلبه هنا؟ ما أجملك وأجمل ابتسامتك وعينيك! هيا انهضي يا كسولة! هيا لنأكل ثم نعاود النوم من جديد، لم أنم ليلة أمس ولا التي قبلها وأشعر بألمٍ شديد يداهم رأسي.

كانت مها تحاول أن تفتح عينيها وأن تدرك ذلك الصوت الذي ييقظها كأنها تعرفه.

فتحت عينيها فوجدت الجالس جوارها وبهيئته هذه ثم نظرت لنفسها فإذا بملابسها مبدلة ومرتدية منامة سوداء رجالي على الأغلب لكن لا تخصها فهي تبدو واسعة فانتفضت جالسة وأمسكت بأعلاها تضمها مغلقة هذا الاتساع عن هاتين العينين التي تحملقان فيها.

كيف ذلك؟ ماذا حدث؟ لا تذكر أي شيء، كل ما تذكره السفاري، البلوهول، البحر، ركوب الجمال… ثم ماذا؟ كأن ليلةً بالكامل قد مُسحت ولا تعرف عنها أي شيء فوضعت يدها على رأسها.

ابتسم جلال قائلًا: كيف أصبحتِ يا حبة القلب؟

سألته بريبة: ما الذي أتى بك إلى غرفتي؟

فأجاب مبتسمًا: لا، أنت التي في غرفتي.

فصاحت بصدمة: ماذا؟!

فقال وهو يضبط المنامة عليها من كتفيها: تبدين كأنك تعومين في منامتي!
ثم ضحك وأكمل: لكن معذرةً فمن أين كنت ءأتي بملابس لكِ!

فصاحت بصوتٍ مختنق: ملابسي!

– إطمأني هي في الحمام، هيا إنهضي إنه موعد الإفطار ثم نعاود النوم مجددًا، فقد كانت البارحة ليلة عجيبة وأراكِ تحتاجين إلى المزيد ِ من النوم.

ثم غمز لها وقال بخبث: إني لأحسد هذه المنامة، ليتني هي.

كانت مها تحاول أن تنطق بأي كلمة لكن كأنما قد تجمد حلقها، فوضع يده على وجهها وقال بقلق: ماذا بك حبيبتي؟ كأنكِ لستِ بخير!

فدفعته ثم انطلقت ركضًا خارج الغرفة فابتسم جلال وضحك من فعلتها ثم تحسس مكان نومها وانحنى مشتمًا رائحتها فيه، لا بل وضع رأسه مكان رأسها وأخذ نفسًا عميقًا وأغمض عينيه وهمس بوله: ماذا فعلتِ بي؟! من أين ظهرتِ ليّ؟!

وبعدها ذهب في سباتٍ عميق.

أما مها فوقفت عند باب غرفتها وتذكرت أن ليس معها الكارت الخاص بالغرفة، نظرت لقدميها، إنها حافية القدمين! ماذا تفعل؟

فإذا بأحد العاملين مر جوارها وقبل أن تنطق فتح لها غرفتها ثم دخلت، أغلقت الباب بظهرها وسقطت جالسة على الأرض تغطي فمها بيدها وتريد أن تبكي أو تصرخ لكن كل شيءٍ متجمدٍ فيها، فأخذت تضرب نفسها بقوة لعلها تبكي أو تنطق بحرفٍ حتى.

ظلت هكذا لفترة لا تقوي على فعل أي شئ، حتى إنها تريد الوقوف مجددًا لكن قدميها لا تحملاها ثم أخذت تضرب رأسها بقوة تريد أن تتذكر أي شيء لكن لا تتذكر.

أما جلال ففي وقت الظهيرة فتح عينيه ثم ابتسم فقد شعر فجأة بطيفها جواره وأخذ يتذكر كم كان يومهما بالأمس رائعًا! ثم جلس وكان لايزال برداء الاستحمام، فنهض ليرتدي ملابسه فالساعة الواحدة الآن وهذا موعد الغداء وهو جائع بشدة.

دخل الحمام وجد ملابسها فابتسم ثم خرج وأمسك بهاتفه ليتصل بها فإذا به يسمع صوت الرنين، إن هاتفها هنا على أحد المناضد فنظر فيه ليرى الإسم المسجل الذي تسميه به وهو يتوعد إذا وجد إسمًا مضحكًا لكنه كان مكتوبًا هكذا (7abibi) فاتسعت ابتسامته.

بدّل ملابسه ووضع هاتفها في جيبه ثم اتجه ناحية غرفتها ليذهبا لتناول الغداء معًا لكنه وجد عمال النظافة ينظفون الغرفة فانصرف دون أن يسألهم.

ذهب إلى المطعم باحثًا عنها فلم يجدها ثم إلى حمام السباحة فلم يجدها أيضًا فإذا بهاتفها يرن في جيبه فنظر فيه وكان المتصل هو رامي فتأفف وفتح الخط ووضع الهاتف على أذنه وسمع: مرحبًا مها! ما الذي فعلتيه؟ لماذا سافرتي فجأة؟ كيف سأتواصل مع هؤلاء؟! مها! هل تسمعيني؟

فأغلق جلال الخط متأففًا أكثر وأكثر ترى ماذا حدث لتترك كل شيء وتذهب فجأة ولازال هناك يوم آخر.

و رن الهاتف ثانيًا وكانت نهى هذه المرة ففتح الخط وسمعها تتحدث بمزاح: هاأنا انتظرتك للغد كما طلبتِ، هيا احكيلي ما حدث بالأمس وبالتفصيل، هيا ردي!

فأغلق الخط فرن ثانيًا وكانت أمها فأغلق الخط وأغلق الهاتف تمامًا ثم جلس متأففًا فاركًا وجهه بغضبٍ دون أن يفهم شيء، لقد كان كل شيء على ما يرام فماذا حدث إذن؟

وبعد منتصف الليل بل قبيل الفجر فتحت مها باب بيتها ودخلت بحقائبها، فإذا بأمها تشعر بصوت حركة بالخارج فنهضت فوجدتها مها فتعانقتا بشدة.

صاحت فاتن بسعادة: حمدًا لله على سلامتك، لماذا لا تجيبي على اتصالاتي؟

صاحت مها بفجأة: لا أجده ولا أذكر أين فقدته، يبدو أنه ضاع أو سقط.

– هذا مؤكد فقد اتصلت بكِ فوجدت من يغلق المكالمة ثم تم إغلاق الهاتف، خيرًا! المهم أنكِ قد عُدتي بالسلامة، ماذا بكِ؟

– أنا متعبة للغاية يا أمي ربما أُصبت بضربة شمس، معذرةً أريد النوم فورًا وأرجوكِ لا تيقظيني دعيني أستيقظ وحدي.

– إذهبي وخذي حماما دافئًا أولًا.

– لا أقوى الآن، معذرةً أمي!

ثم تركتها ودخلت غرفتها، أغلقت الباب خلفها وألقت نفسها في فراشها وأخيرًا استطاعت البكاء فانتحبت بحرارة ولازالت تضرب نفسها وتصدم برأسها في السرير قائلة: ليتني لم أعرفك ولم أراك، ماذا فعلتُ؟ ماذا فعلتُ بنفسي؟ هل أسأله؟ وهل هذا يُعقل؟! كيف لا أذكر أي شيءٍ هكذا؟! من سيصدقني؟ هو نفسه لم يصدقني وبالطبع سينكر فعلته تلك، تتحدثين كأنكِ متأكدة! الأمر يبدو واضحًا من تلقاء نفسه، بت في غرفته وفي فراشه ووجدت نفسي مرتدية ملابسه، كم أنكِ حمقاء! إبكي إبكي أيتها الحمقاء! فذلك تصرف الأغبياء أمثالك، كيف صدقتِ مشاعره المزيفة؟! كيف سينقلب حاله من يومٍ وليلة؟ لقد حقق ما يريد أريني ما ستفعليه! أحببتيه من صوته! غبية! إبكي أيتها الغبية! لكن لا..

ثم أسرعت وفتحت أدراجها مخرجة كل تلك الأقراص المدمجة التي عكفت على جمعها منذ أعوامٍ ثم بدأت تحطمهم بيدها واحدًا خلف الآخر ضاربة عليه بقدميها حتى أنه قد جرحت يدها وتحولت الغرفة لفوضى.

وقالت بين أنفاسها المتلاحقة: لم أعد أحبك، كفاني كذبًا وخداعًا، سأذهب للأسف، لقد صرتُ وحدي في النهاية وحدي في اللا شيء، لم أكن محبوبتك في أي وقت، ليتني أمحوك من ذاكرتي ومن قلبي..

ثم سكتت وقالت مجددًا وهي تضع يديها المجروحتين على قلبها: قلبي قلبي يؤلمني، كنت جواري كنت أحبك وأشتاق إليك، لماذا صرتَ غريبًا فجأة؟ هل عمري يكفي لنسيانك؟ كأني أقول للدنيا انقلبي فتنقلب هكذا بمنتهى السهولة، أمضيتُ أعوامًا وأعوامًا أركض خلف الحب، لكني في الحقيقة ركضتُ نحو الألم والذل والهوان، لِمَ لازلت أشعر بك هكذا؟! لِمَ روحك لازالت تلامس روحي؟! لِمَ أرى عينيك لازالت أمامي تنظر إليّ هكذا؟! إن قلبي يحترق واقلباه! لم أحب أحدًا كهذا الحب من قبل، لكن يبدو أن الفراق مقدّر في قدرنا كلما اقتربنا افترقنا، سأنساك، لكن كيف؟ كيف؟ كيف؟!

ظلت هكذا وحدها منهارة لا تتحدث لأحد وترد بالكاد على أمها بكلمةٍ وجيزة دون سرد، تبكي ليلًا ونهارًا وتحبس نفسها ولا تقابل أحد.

ومهما جاءتها رضوى أو نهى مرارًا لم تقابلهما ولن تفتح لأيتهما باب حجرتها.

الجميع في قلقٍ وتوتر دون فهم أي شيء، وجلال محاولًا معرفة أخبارها من خلال نهى لكنها تخبره أنها لا تقابل أحد و لا تتحدث مع أحد ولا أحد يدري ماذا جرى!

الفصل الخامس عشر)

وبعد شهرًا كاملًا من الحزن، العزلة والاكتئاب وجدت فاتن ابنتها متهيئة للخروج فتعجبت ونادت عليها:مها، لأين أنتِ ذاهبة بحالتك هذه؟!

– مشوار هام.

– ليتني أعرف ماذا دهاكي! عمومًا رضوى على وصول انتظريها لتذهب معك.

– معذرةً أمي! لكني لن أنتظر.

وخرجت قبل أن تنطق فاتن بكلمة أخرى وهي خائفة وقلقة بشأن ابنتها وأحوالها مؤخرًا غير المبشرة بأي خير ولا تدري ماذا تفعل!

كان جلال طوال تلك الفترة قد جن جنونه فهو لم يراها منذ يومها ولا يعرف عنها أي خبر، ترى ما الذي حدث؟ حتى صديقتها نهى ترفض مقابلتها وهي أيضًا لاتفهم السبب وقد نقلت إليه صورة أحوالها غير المطمئنة وكيف هي في عزلة واكتئاب!

كان جلال قد أرسل هاتف مها مع نهى لتعطيه لها لكن الهاتف لازال مغلقًا، لقد بدأ اليأس يتملك قلبه وصار يتحول إلى حالة لم يفهمها، فقد بدأ يشعر، يحس ويحب، كلها كلماتٍ كانت عديمة المعنى لديه من قبل.

لماذا اقتربتِ إن كنتِ تنوين البعاد؟! لماذا علقتيني بكِ ثم اختفيتِ؟! لازلتُ أرى عينيكِ أمامي وتلك الابتسامة الأخّاذة، لازلتُ أشعر بأنفاسِك وأشتمُ رائحتك التي تملأ رئتيّ، لقد أحببنا بعض وودنا أن يعرف عنا الجميع، أخيرًا صرتُ محبوبًا، نوينا أن نكتب كتاب حياتنا معًا…
سطور وسطور عن هذا العشق الكبير.
لكن فجأة أجد اللاشيء إلا شوق يحرق روحي كل يوم.

وبينما كانت نهى في مكتبها تعمل وياسين يخرج من مكتبه إذ دخلت مها على فجأة بهذه الهيئة المريبة فوجم ياسين من هيئتها وأسرعت نهى نحوها تعانقها كثيرًا فقد اشتاقت لها حقًا.

صاحت نهى بلهفة: أين كنتِ؟ قد افتقدتكِ كثيرًا!

فأجابت مها بلا تعبيراتٍ واضحة: موجودة.

– تبدين متعبةً للغاية، لن نتحدث الآن.
ثم قالت بمزحة: سأنتظرك حتى تتحسنين لتتحملي ما سأفعله بك.
ثم قالت بفجأة: مها ! أنت ترتدين الجينز! أين الزي الرسمي للشركة؟!

قالت مها: أريد الدخول إلى جلال.

شهقت نهى وصاحت بفجأة: ماذا؟!

فرفعت مها صوتها: أريد مقابلة السيد جلال.

لازالت نهى تنظر نحوها بصدمة والتفتت نحو ياسين المصدوم من البداية هو الآخر، لكن ما حسم الأمر الخروج المفاجئ لجلال فقد سمع صوت مها وهو بالداخل.

أسرع إليها جلال باشتياق لم يُرى عليه منذ وفاة أمه بصورةٍ فاجئت ياسين ونهى وضمها نحوه بشدة بقدر ما طالت أشواقه واحترقت روحه في بعادها، لكنها ظلت جامدة ويديها جوارها فظن أنه قد أحرجها بهذا اللقاء الحار.

فابتسم ومد يده نحوها ليصافحها لكنها أيضًا لم تمد يدها وظلت جامدة تصوب إليه نظراتٍ حادة حارقة ثم تقدمت نحو المكتب دون أي تعليق.

نظر جلال بين ياسين ونهى وقد شعر بالغضب والإهانة معًا ثم هندم من هيئته، فرك وجهه ثم مسح على شعره وأخذ نفسًا عميقًا وأخرجه بهدوء ثم تبعها وأغلق الباب خلفه.

تحدث جلال بشوق: مها، أين كنتِ طوال ذلك الوقت؟

وأمسك بيدها ليقبلها لكنها سحبتها بسرعة، سكت قليلًا يقاوم الغضب الذي يهجم عليه ثم قال: ماذا بكِ؟ لماذا تركتيني وعُدتِ وحدِك؟! ولماذا غبتِ عني؟! أرجوكِ قولي أي شيء! إحكي! مها! إن روحي تحترق شوقًا لكِ.

نظرت له تحاول أن تقرأ ما وراء هذا الكلام، لكنها فشلت فردت بجدية وجمود: معذرةً سيد جلال! لكني جئتُ اليوم لأقدم استقالتي، لم أعد بحاجةٍ للعمل هنا… معكم.

فأمسك بيدها ونظر في عينيها وصاح: لماذا؟! ما الخطب؟!

فنزعت يدها بقوة وصاحت بانفعال: أنت تعلم جيدًا ما الخطب، وإياك أن تتوهم أنك ستذلني بفعلتك تلك!

عقد جلال حاجبيه بعدم فهم متسآلًا: عن أي فعلة تتحدثين؟ لا أفهمك، إهدئي! أتذكرين يوم أن أخبرتك أني سأتغير من أجلك؟ ها أنا بالفعل قد سلكت طريق التغيير، لقد ذهبت إلى مختصٍ يرشدني كيف أتعامل بصورةٍ سوية، ألا تشعرين بفارقٍ؟ أعلم أنه لازال طفيفًا لكنكِ أكثر من يفهمني والأقرب فحتمًا قد لاحظتِ أليس كذلك؟

– أنت الذي لم تلاحظ أي شيء، لم تلاحظ أنك حطمتني، أرجوك كفى!

– عن أي شيء تتحدثين؟! لازلتُ لا أفهم.

– ولِمَ يفهم السيد جلال؟! فذلك شيء تعتاد عليه، لكن حقيقة لن ألومك إن الحق عليّ أنا المخطئة الحمقاء، كيف علّقت نفسي بك منذ البداية؟ ورضيتُ بالبقاء معك رغم معرفتي بكل أفعالك، ماذا كنت أنتظر مثلًا؟! وماذا كنت تريد مني بعد فعلتك؟

فصاح بصدمة وكأنه بدأ يستوعب ما تقوله: ماذا؟!

فردت بانفعال أقوى: كأنك متفاجئ! من تكون؟! كأنك شيطان في صورة بني آدم، لا بل حيوان! لا، لازلتُ لا أجد وصفًا يليق بحقارتك، ليتني ما عرفتك ليتني ما قابلتك!

وهنا دخل ياسين ونهى على أثر ذلك الصوت وينظران نحو مها ثم نحو جلال.

صاح جلال: أرجوكِ وضحي حديثك بدلًا من توزيع الاتهامات وانتقي ألفاظك!

– أجل! فهذا كل ما سيهمك!
ثم نظرت نحو ياسين وصاحت بصوتٍ مختنق من شدة البكاء: أخوك المحترم قد دمرني.
ثم نظرت لجلال مجددًا: إن كنت لا تريدني لِمَ علقتني بك ثم……

بترت كلماتها ثم انطلقت تجري منهارة ونهى محاولة اللحاق بها لكن بلا فائدة وكان للشركة بابٍ خلفي فخرجت منه؛ فهي لا تريد الاحتكاك بأحدٍ من الموظفين خاصةً وهي بهذه الهيئة.

خرجت من الشركة ركبت سيارتها ولازالت تنتحب بحرقةٍ شديدة وتحدث نفسها: لقد تعبتُ كثيرًا ومع ذلك لا طاقة لي بالاستغناء عنك، أكرهك وأحبك معًا، لا أريد رؤيتك وقد اشتقتُ إليك قبل أن أتحرك بخطوةٍ واحدة، لكن كيف أسامحك وكيف أتقبل وضعي؟ هل عليّ أن أمسح دموعي وأمضي كأن لم يحدث شيء؟! هل عليّ أن أقبل الاستمرار معك وأشعر بأني أقل من مجرد فتاة عادية؟! ماذا أفعل؟
ليس لدي إلا أن أحبك وأظل قربك…. لكن، لكن!

وظلت تضرب نفسها ثم فجأة انطلقت بسيارتها حتى وصلت إلى مبنى ما، ترجلت من سيارتها ووقفت بعض الوقت تبدو مترددة ثم صعدت.

كانت رضوى على موعد معها لشراء بعض مستلزمات الزواج فقد اقترب موعد زفافها بأخيها وقد رأتها فرصة مناسبة لتخرج مها من حالتها وتشغلها بأمرٍ آخر، لكن بمجرد خروج مها وصلت رضوى ولم تجد سوى خالتها فاتن.

فسألتها رضوى: لماذا خرجت قبل مجيئي؟

– إن ابنتي هذه بها خطب جلي، خاصةً منذ أن عادت من تلك السفرية، تراني قلقة بشدة، حتمًا هناك أمر ما وهي ترفض أن تتحدث، حتى تلك الأفلام الكارتونية قد حطمت كل الأقراص المدمجة التي عكفت على جمعها، لم تعد تخرج أو تذهب حتى إلى عملها ولا حتى لمشاهدة أي فيلمًا كارتونيًّا في دور العرض.

فقالت رضوى بصوتٍ منخفض: ليتك سمعتِ مني وابتعدتِ عن هذا الجلال.

– أتقولين شيئًا!

– إطلاقًا.

– كأني سمعتك تقولي جلال!

– جلال!

– لقد سمعتُ بذلك الإسم من قبل، كأنه إسم مدير الشركة وأخو زوج نهى!

سكتت رضوى وبدأ يزيغ بصرها وترتبك بشدة فشكت فاتن في أمر ما ثم صاحت بصرامة: رضوى!

همست رضوى بارتباك: خالتي…..

– قولي! وإياكِ أن تقولي لا أعلم! هيا احكي ما لديك!

– جلال هو فعلًا مدير وصاحب الشركة وأخو زوج نهى.

– وأنا أعرف ياسين زوج نهى وهو رجل محترم وعلى خلق.

– أجل!

– ثم ماذا؟ ما قصة ذلك الأخ؟

– إن جلال هو صاحب ذلك الصوت.

-ماذا؟! وماذا يعني هذا؟

– كل ما أعرفه أنه كائن مغرور ويعطي لنفسه أكبر من قيمتها وكأن الكون بأكمله لم ينجب مثله! يحب إصدار الأوامر والتسلط ويجب أن يكون أمره مطاع دون مراعاة أي ظروف أو قدرات الآخرين.

– وبعد كل ذلك لازالت تحبه! أم تكون قد ذهبت إليه واعترفت له بأمرها هذا! أعرف تلك المجنونة جيدًا ويمكنها أن تفعل ذلك.

– وما العمل الآن؟

– وأين يتواجد جلال هذا؟

– ربما يكون في الشركة.

– إذن سأذهب إليه الآن، قلبي يحدثني أن له علاقة بما حدث لابنتي، انتظريني سنذهب معًا!

وبالفعل بدلت ملابسها وذهبت هي ورضوى إلى الشركة للقاء جلال.

(الفصل السادس عشر)

وبعد أن خرجت مها تحرك جلال ليلحق بها فاتجه إليه ياسين وأمسك بملابسه ولأول مرة يتجرأ ياسين بفعلة كهذه.

وصاح: ترى متى ستكون بني آدم؟! ماذا فعلت فيها؟ كنت أكذّب نفسي في البداية لكن بعد ما رأيت وسمعت أود السماع منك أولًا قبل أن أقلبها فوق رأسك، ولن يهمني أي شيء!

فصاح جلال بصدمة: ياسين! كيف تجرؤ؟! هل نسيت نفسك؟! أفسح لي الطريق!

– قلت أريد السماع منك، هيا إحكي! أرجوك فهمني!

– ليتني أفهم أنا أيضًا! لا أدري كيف تبدّل حالها هكذا؟! لقد قضينا معًا يوم أكثر من رائع.

– ترى أي نوعٍ من الروعة تقصد؟!

صاح جلال بصدمة وقد اتسعت عيناه بعدم تصديق: ماذا؟!

– ترى ما الذي يدمر فتاة بمثل تلك الطريقة ويقهرها هكذا وتتعامل هكذا مع شخص أقل ما يقال أنها كانت عاشقة له؟!

وهنا قاطعهما دخول نهى تخبرهم بمجئ فاتن أم مها.

صعدت مها في ذلك المبنى حتى وصلت أمام باب عيادة لطبيبة أمراض نساء كانت تسمع عنها من بعض زميلتها عن مهارتها وأمانتها.

دخلت العيادة، كتبت بياناتها وانتظرت دورها ثم جلست شاردة، تفعل ما تفعله منذ شهرٍ مضى، عادت بذاكرتها منذ أن سمعت صوته وعشقته أعوام دون أن تعرفه ثم قابلته وتيمت به أكثر وأكثر رغم كل الشواهد التي اعترضتها منذ البداية وهذه هي النهاية.

كانت تفكر ما الذي يمكن أن تفعله بعد ذلك، وما وجه الاستفادة من هذه الزيارة، وماذا ستقول أصلًا للطبيبة «معذرةً، لا أتذكر!» وهمت بالمغادرة لولا أن سمعت اسمها يُنادى عليه فاستوقفها ذلك واضطرت للدخول.

دخلت إلى الطبيبة وكانت في قمة خوفها وتوترها وتفكر فيما ستقوله.

قامت مساعدة الطبيبة بقياس الضغط، درجة الحرارة والوزن وما إلى ذلك من إجراءات ثم جلست أمام الطبيبة وكانت إمرأة باشّة الوجه تتقارب في العمر مع أمها ويبدو عليها مكارم الأخلاق والراحة.

فسألتها برفق: ماشكواكِ سيدتي؟!

انتفضت مها، تلاقطت أنفاسها وأجابت بتلعثم: كنت… كنت أود التأكد من كوني حامل أم لا.

-إن شاء الله كل خير، منذ متى وأنت متزوجة؟

فوجمت مها ولم تنطق وبدأت الطبيبة ترتاب في أمرها فطلبت منها بهدوء التحرك لمكان الكشف وبالفعل بدأت بالأشعة التلفزيونية وكانت من حينٍ لآخر تنظر نحوها ولبصرها الزائغ وقلقها الشديد الذي يؤكد مخاوفها.

فقالت بجدية: كل الأمور على مايرام، ولا يوجد أي مشكلة من أي نوع، أما عن الحمل..

وكادت مها أن يخرج قلبها من مكانه من شدة دقاته خوفًا وقلقًا وصار جسدها يرتعش وكل ذلك تلاحظه الطبيبة…

فأكملت: لا يوجد حمل.

فأخذت مها نفسًا عميقًا وأخرجته بهدوءٍ ثم قالت بصوتٍ مختنق يكاد يختفي وسط أنفاسها المتوترة: هل أنت متأكدة؟

-بالطبع، الأمر واضح، كنتِ أجريتي اختبارًا للحمل بدلًا من حالتك هذه، لكن لماذا أنتِ هنا بمفردك؟ أين أمك أو أختك؟

– هذا ما حدث.

وهمت بالقيام فاستوقفتها الطبيبة قائلة: لم أنتهي من الفحص بعد.

وقد ازداد ارتعاشها لدرجة سرت في بدنها كله ثم انفجرت في البكاء.

فقالت الطبيبة بصوتٍ حنون: ابنتي! كوني صريحة معي فأنا مثل أمك، هل أخطأتي خطأً ما؟

فاشتد بكاء مها وقالت: لا أتذكر.

-كيف؟!

فقصت لها مها حكايتها منذ هوسها بصوته وحتى استيقظت ووجدت نفسها في فراشه مرتدية ملابسه.

– وهل ذلك هو معيار حكمك أم سألتيه وأخبرك بفعلته؟

– الموضوع واضح وضوح الشمس.

-لكن هذا ليس بدليلٍ يا ابنتي! على أية حال أنتِ قد أحسنتِ التصرف بمجيئك هنا، وسأطمئنك الآن.

فأهدئتها الطبيبة برفق وبعد انتهاءها من الفحص ابتسمت وربتت عليها ثم قالت: ألم أقل لكِ، أنتِ في أحسن حال، وقد تجنيتِ على الرجل وافتريتِ عليه بالباطل وعليكِ إيجاد حل للإعتذار له، أما أنتِ فلستِ بحاجة إليّ، أنت بحاجة لطبيب من تخصص النفسية العصبية أو ربما لمرشدٍ نفسي لأنك قد أرهقتِ نفسك بزيادة الفترة السابقة.

وتحركت الطبيبة وضبطت مها ملابسها وما أن همت بالتحرك حتى سقطت مغشيًّا عليها.

وفي مكتب جلال.
دخلت فاتن ورضوى مع نهى لتجد ياسين وجلال يبدو كأنهما يتشاجران، فصافحها ياسين بارتباك ظاهر وقال: أهلًا، مرحبًا بكما.

أجابت فاتن: معذرةً بنيّ لكني لم آتي هنا زائرة .
ثم نظرت نحو جلال وأكملت: هل أنت السيد جلال؟

فمد جلال يده ليصافحها: أجل، مرحبًا بكِ!

فنظرت إليه ولم تمد يدها وهذه المرة الثانية التي يُحرج فيها جلال هكذا فكتم غيظه.

تحدثت فاتن: ألست أنت من كنت مصاحبًا لابنتي في شرم الشيخ؟
فأومأ برأسه مجيبًا بالإثبات.

فأكملت فاتن: أريد معرفة ماذا فعلت بابنتي لتعود هكذا؟! قلبي يشعر أنك السبب، ماذا فعلت؟

والتفت إليه الجميع يوجهون إليه نظرات اتهامٍ واضحة.

فأجاب جلال: لِمَ تنظرون إليّ هكذا؟ لِمَ تظنون بي هكذا؟ أنا لم أفكر يومًا في إيذائها.

تابع ياسين بسخرية: منذ متى؟ أنت طوال عمرك لا تهتم إلا بنفسك ومصلحتك فقط وليس لديك أي معاني لأي شيء سوى المصالح.

– لكن ذلك لا يعني أن أرتكب معها ما تفكرون فيه وتتهموني به، كيف لها أن تظن بي هكذا؟!

– إذن إعطي تفسيرًا منطقيًا! ماذا حدث جعلها تظن فيك هكذا؟ آخر لقاء لكما على سبيل المثال كيف كان؟ ليتك تبرّئ نفسك، أعتذر منك أخي لكني أنا أيضًا أحتاج لتصديقك.

– آخر لقاء كان يوم رحلة دهب وكان هو أول لقاء لنا وأول يوم لنا معًا، ماذا أقول عن روعة هذا اليوم! هو أحسن أيام عمري على الإطلاق، وأقل ما يقال عنه أنه رائع رغم كونه مرهق للغاية.

أومأت نهى: فعلًا، قد حدثتها ذلك اليوم وكانت في قمة سعادتها وقالت لي أنها ستحادثني في حينٍ آخر وبعد إلحاح مني أرسلت إليّ صورة لكما معًا كانت رائعة بحق، لم أصدق أن من معها هو أنت من تلك الضحكة العريضة الصافية التي تنبعث من القلب بحق وتلك النظرات العاشقة والعيون اللامعة من وهج ولهيب الحب.

ابتسم جلال بحزن وأكمل: أنا نفسي لم أصدق أن هذا هو أنا من يتحدث هكذا ويتصرف هكذا، لكن في نهاية اليوم قد تعبت بشدة وأصابها دوار وتقيأت، وركبنا السيارة وكنت أظنها نائمة وأنا أضمها إليّ وأغطيها بقميصٍ لي، لكن بمجرد وصولنا للفندق وبدأت إيقاظها لم تستيقظ، واكتشفت حرارتها المرتفعة فأخذتها معي لغرفتي وطلبت طبيب الفندق ومعه ممرضة أو مساعدة تكون فتاة فجاء ومعه ممرضة وإحدى العاملات بالفندق، كانت قد أُصيبت بضربة شمس وتعاني من انخفاض في ضغط الدم وتحتاج إلى محاليلٍ مغذية كثيرة وذهب الطبيب لإحضارها وطلبت مني الممرضة وضع مها في مغطس الحمام بعد ملأه بماءٍ فاتر لتنخفض حرارتها لأنها كانت مرتفعة وأن العلاج عادةً لا يمكن أن يخفضها دون كمادات وقد فعلت وظللت معهن.
بعدها طلبتا مني ملابس نظيفة لها ولم يكن أمامي سوى إحدى مناماتي فأعطتها لهما وتركتهما حتى بدلتا ملابسها ثم دخلتُ حملتها ووضعتها في فراشي ودثرتها جيدًا وظلت معنا الممرضة طوال الليل تعطي لها المحاليل والأدوية المختلفة حتى الفجر وأنا جوارها، وقبل طلوع النهار طمأنتني عليها وأخبرتني أن الأمر على مايرام ثم غادرت الغرفة.
ذهبت عيناي في سنةٍ من نوم وأنا جوارها ثم استيقظتُ صباحًا ودخلت للحمام أتحمم وخرجت لإيقاظها كي نذهب لتناول وجبة الإفطار أو ربما تود أن أطلبها في الغرفة، ولما استيقظت وقتها أبدت ردود أفعال غريبة لكني لم أفهمها وقتها ولم يخطر ببالي أنها قد ظنت هكذا، كنت أتصرف بتلقائية، كنت قلقًا عليها للغاية، أقسم لكم أن ذلك كل ما حدث، صدقوني!

ثم رن هاتف جلال فجأة وكان رقمًا غريبًا فتجاهله في بادئ الأمر ثم بعد ذلك اعتذر منهم واضطر للرد: مرحبًا! من؟! مها! أجل! ماذا؟!

ا؟!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان