رواية ” المعجبة المهووسة ” الفصل السابع والثامن عشر للأديبة نهال عبد الواحد

الفصل السابع عشر

 

وفجأة رن هاتف جلال فوجد رقمًا غريبًا فتردد قليلًا ثم رد: مرحبًا! من؟! مها! ماذا؟!

ثم أمسك بورقةٍ وقلم وكتب عنوانًا ما، يبدو أن أحدًا ما يمليه له ثم هبَّ واقفًا، فأسرع ياسين متسآلًا: ماذا؟! كأن الأمر يخص مها!

صاح جلال مستفيقًا فجأة من شروده اللحظي: مها!

ثم انطلق وخرج الجميع خلفه فقد شعروا بخطبٍ جلي وقد بدا على جلال القلق الشديد.

خرجوا جميعًا من الباب الخلفي وركب كل منهم سيارته دون سائق، ركب ياسين ونهى معًا وفاتن ورضوى مع جلال.

كان جلال يقود بسرعةٍ وصمتٍ وكانت فاتن تود لو تسأله لكن تخشى فهيئته حقًا لا تبشّر بخير، لكن كطبيعة أي أم تتوقع في ذهنها كل السيناريوهات السيئة حتى وصل جلال وتوقف أمام عمارةٍ ما وتردد بعض الوقت ولم ينزل توًا وبعد ذلك ترجّل والجميع تبعه دون أن يفهم ما الذي يجري!

وصل جلال أمام باب العيادة وتجمد مكانه ولا يفهم لماذا أتت هي إلى هنا؟ ولا لماذا طلبت حضوره؟ هل ستورطه في أمرٍ ما؟!

إهدأ جلال ولا تتسرع في الحكم ولا تسحب ثقتك منها، إنها مها!

هكذا حدثه عقله، أخذ يتنفس بعمقٍ ويمسح وجهه بهدوء ثم دخل قبلهم فمنذ أن وقعت أعينهم على لافتة (طبيبة نساء وتوليد)  وقد عادت نظرات الاتهام والتكذيب إليه مجددًا.

دخل جلال وبمجرد دخوله عبق المكان برائحة عطره المميزة فالتفتت بأعينهن كل اللاتي جلسن بالعيادة بدخلته المهيبة تلك، أناقته ووسامته ثم دخول ياسين خلفه ورغم تفوق جلال عليه في هيئته لكنه أيضًا يتمتع بوسامةٍ وأناقةٍ ليست بالقليلة وبدأ صوت همساتٍ يُسمع منهن مع نظرات الانبهار والإعجاب فأسرعت نهى الإمساك بيد زوجها فنظر إليها يومئ بوجهه متنهدًا أن هذا ليس بوقته!

وقف جلال أمام السكرتيرة والتي هبت واقفة واجمة عندما رأته وظلت تتطلع إليه كأنها لم ترى رجلًا في حياتها فتأفف ونظر جانبًا.

زفر جلال وتحدث بجموده المعتاد: معذرةً! لقد اتصلتم بي منذ قليل.

فأجابت السكرتيرة بتيه: بخصوص ماذا؟

أجاب جلال بفراغ صبر: مها.

– السيدة مها! إذن فأنت زوجها! يمكنك الانتظار قليلًا حتى نخبر الطبيبة.

– أين مها الآن؟

– هي لاتزال بالداخل ربما في حجرة الاستراحة، لكن يبدو أن الطبيبة بحاجة للتحدث معك أولًا، يمكنك الانتظار قليلًا، تفضل سيدي!

كم أزعجته كلمة (السيدة) تلك وأثارت غضبه خاصةً وعاوده عدم الفهم من جديد، كما أن تلك الكلمة أحزنت فاتن وأشعرتها بنوعٍ من الحسرة.

جلس الجميع ينتظر في مدة لا تزيد عن الربع ساعة لكنها قد مرت عليهم أمدًا طويلًا.

وأخيرًا نادت السكرتيرة على جلال للدخول فدخل مسرعًا وتبعه الآخرون وكان الأسرع لمكتب الطبيبة جلال وفاتن وقالا في صوتٍ واحد: ماذا حدث لمها؟

أومأت الطبيبة بهدوء: يمكنكما الجلوس أولًا، تفضلا!
ثم نظرت ناحية جلال وقالت: إذن أنت جلال!

عقد جلال حاجبيه باستفهام وأجاب: أجل!

سألتها فاتن بلهفة: حدثيني أنا أرجوكِ! فأنا أمها.

تابعت الطبيبة بنفس هدوءها: إهدئي سيدتي! الآنسة مها بخير صدقيني!

تحدث جلال: معذرةً! التي تجلس بالخارج أخبرتني بأشياء لا أفهمها قالت السيدة مها وأني زوجها، ثم من أين توصلتم لأرقامي الخاصة؟!

أجابت الطبيبة: من الواضح أنك قد سرقت عقلها لدرجة جعلتها تمليهم أرقام هاتفك بدلًا من أرقامها، و مؤكد أن السكرتيرة قد خمنت لأن ما يحدث في حجرة الكشف لا يخرج أبدًا، معذرةً على أية حال على سوء الفهم.

قالت فاتن: أود معرفة أين ابنتي وماذا أصابها؟
ثم نظرت بينها وبين جلال وودت لو يخرج لتتحدث معها الطبيبة بصراحة.

لكن الطبيبة ردت قائلة بوجهٍ باش: ابنتك بخير وفي أحسن حال من ناحية تخصصي أعني، ابنتك سليمة أقسم لك! إطمأني! لقد قصت عليّ كل شيء منذ أن تعلقت بصاحب الصوت وحتى يوم استيقظت وجدت نفسها في غرفته بالفندق.

صاح جلال: أقسم لك ما ارتكبت أي خطإٍ بحقها!

أومأت الطبيبة: أعلم وقد تأكدتُ أنها في أحسن حال، لكن ذلك كما قُلت من حيث تخصصي والناحية العضوية أما الناحية النفسية فهي تعاني من اضطرابات نفسية شديدة نتيجة تلك الضغوط التي عاشتها في الفترة الأخيرة وهي بحاجة لطبيبٍ متخصص في النفسية العصبية، لقد سجلت تشخيصي هنا كما رشحتُ مجموعة من الأطباء الثقة في ذلك التخصص يمكنك الاختيار منهم.

قال جلال: لدي طبيبٍ أعرفه وثقة.

– حسنًا، يمكنكم الذهاب إليه.

فصاحت فاتن: هل ابنتي أصابها الجنون؟!

فابتسمت الطبيبة وقالت: لا يا سيدتي هذا ليس بجنون، هي مجرد مجموعة من الاضطرابات وسيعالجها الطبيب بمشيئة الله.

تابع جلال: معذرةً، لكن ما الذي يجعل فتاة تظن في نفسها مثل ذلك؟!

أجابت الطبيبة: ربما كان حلمًا فاختلط بالواقع وصار الأمر مشوشًا لا تستطيع تذكره ولا التأكد منه خاصةً مع وجود بعض الملابسات في الأمر عندما استيقظت أقصد، إن النفس البشرية عميقة ومتشابكة وأي خلل يسبب بعض المشكلات، ورجاءً لا تتسرعوا في الحكم عليها بالحماقة والتسرع فسماتها الشخصية والظروف التي مرت بها يجب أن تؤخذ في الحسبان وأشياء كثيرة يجب عدم تجاهلها ويتم التقييم والتشخيص على أساسها وذلك سيكون دور الطبيب الذي بالتأكيد سيشخصها تشخيصًا أكثر دقة.

فتنهدت فاتن بحزن وسألتها: وأين هي الآن؟

– هي في حالة انهيار وكانت تعاني من نقص وهبوط في الدورة الدموية، إطمئنوا ستصير الأمور على ما يرام.

فوقف جلال مغلقًا أزرار كنزته ومهندمًا حاله برسمية ثم قال: شكرًا لكِ، لو تأذني بمن يوصلني إليها.
ثم التفت لأخيه وقال: إذهب انت ونهى للشركة! كفاكما تعطلًا.

فاحتضنه ياسين معتذرًا فربت عليه جلال بتنهيدٍ وهز برأسه أن متفهم.

ثم قالت الطبيبة تلطف الوضع: أتمنى أن تغفرلها هذه الذلة وتقدر حالتها.

فأومأ جلال برأسه وبعدها دخل للغرفة التي بها مها نائمة وكانت هيئتها منهكة ووجهها شاحب وعينيها متورمتين من أثر البكاء.

كانت أمها ورضوى تعانقاها ودخلت إليها نهى وقبلتها للحظات ثم غادرت مع زوجها.

و وقف جلال ينظر إليها دون أن يتكلم بلسانه لكن تحدث معها من داخله وكانت كل نظراته مملوءة بشوقٍ وعشقٍ كبير فقال في نفسه: اشتقتُ لك كثيرًا أيتها المشاغبة الحمقاء! سأحاول غفران خطأكِ هذا وغفران تعب روحي واحتراق قلبي شوقًا لكِ كل ليلة. سأحاول غفران تجاهلِك وتركك لي طوال تلك الفترة، وغفران ظنك السيء بي.

لكن بشرط ألا تتركيني! لا ترحلي! لا طاقة لي بالعيش دونك، أنتِ لي مهما كان، ولن أدعكِ تتركيني، لن أدعكِ لغيري.

وحملها جلال وخرج بها ولازالت تلك الجالسات تنظرن إلى ذلك الوسيم وهو يحمل زوجته كما ظنن.

ذهب بها إلى ذلك الطبيب ولن نقول صديقه فليس لجلال أصدقاء وقدّم له ذلك التشخيص الذي كتبته الطبيبة ثم طلب منهم جميعًا الانصراف وتركها فهناك مكان يمكن للمرضى النزول فيه.

وركبت فاتن ورضوى مع جلال في طريقهم إلى البيت وبعد أن وصل جلال والذي كان طوال الطريق صامتًا وشاردًا وقبل أن تنزل فاتن من السيارة.

قالت: أعتذر منك ابني! أرجو التماس العذر وتقبل أسفي.

أومأ جلال بجمود: لا عليكِ.

– وألف شكر على تعبك هذا.

– لا شكر المهم أن تصير بخير.

تركته فاتن وترجلت من السيارة هي ورضوى ثم انطلق بسيارته مغادرًا.

كان جلال يزور مها ويتابع حالتها يوميًا من ذلك الطبيب رغم أنها أغلب الوقت لازالت تحت تأثير المهدئات.

وذات يوم وقد صارت أهدأ دخل إليها الطبيب وكانت تلك المرة الأولى التي تراه فيها.

فقال الطبيب: حمدًا لله على سلامتك.

أجابت مها: سلّمك الله، أين أنا وماذا حدث ومن تكون؟!

– أنا الطبيب المعالج وقد فقدتِ وعيك فجأة فأحضركِ أهلك لي هنا.

– ومِمَّ أعاني؟ بماذا أُصبت؟!

– أنا طبيب نفسية عصبية وأعالجك من بعض الاضطرابات.

– هل أُصبتُ بالجنون؟!

– لا لا، إنها مجرد تشابكات مثل تشابك الخيوط وسأقوم بفكها بشرط أن تسمعي الكلام وتنفذي ما أقول وستجيئين إليّ في مواعيدٍ محددة مع تناول دواء خاص.

– وماذا ستفعل معي؟

– سنتحدث معًا، وذلك الدواء سيجعلك أكثر هدوءًا واتزانا، وسأطلب منكِ بعض الأمور التي إن فعلتيها ستكونين في خير حال بمشيئة الله.

ثم قال: كنت سأنسى، لديّ رسالة لك.

فصاحت مها بتعجب: رسالة!

– رسالة من جلال النوري، إن جلال يتابع حالته معي، بالطبع هذا سرٌ خاص لكنه قد طلب مني إخبارك، حتى تطمأني إليه وهو بالفعل بدأ يتحسن لكن الأمر يحتاج لوقتٍ ومثابرة، وتعاون منك أيضًا.

– مني أنا!

– أجل، لأنك كما فهمت من المقربين وهؤلاء المقربين عليهم معرفة الطريقة المثلى للتعامل معه، ما هو المسموح وما هو غير المسموح، سأخبرك بدورك فيما بعد، بعد الاطمئنان عليكِ.

– لماذا؟ مم يعاني؟

– هو نوع من الأنانية المرضية وكونه يجئ إليّ بنفسه فهذه نقطة تحول لأنه قد شعر أخيرًا أنه يعاني من مشكلة واكتشاف المشكلة دائمًا هو بداية طريق العلاج، أيضًا يجئ إليّ ونتحدث معًا في بعض الأمور وأيضًا يتناول علاج خاص، لكن أحذّرك، إياكِ والتحدث معه بشأن هذا الموضوع حتى ولو هو من طلب مني إخبارك، فهذا أمر غير قابل للنشر نهائيًا، إحذري أن تفتحي ذلك الموضوع معه إطلاقًا فهو لازال لا يقبل نقدًا وانتقاصًا من أحد، المهم الآن أن تنتبهي لحالك جيدًا لتتحسني أنتِ أولًا.

بعدها عادت مها إلى البيت وكانت بالفعل تذهب إلى الطبيب في مواعيدٍ محددة وتنفذ ما يطلب منها وقد شعرت بنفسها أفضل كثيرًا حتى أنها قد بدأت تخرج مع رضوى لشراء مستلزمات زفافها؛ فمازن أخيها منتَظر قدومه هذه الأيام.

أما عن مها فكانت قد تفاجئت بما فعلت من تحطيم الأقراص المدمجة ثم تذكرت أمر تلك المنامة ففتحت خزانة الملابس، أخرجتها وظلت تمسكها بين يديها ثم ارتدتها فربما تراه في منامها فقد اشتاقت إليه كثيرًا.

وذات يوم قد جاءت نهى وتجمع ثلاثي صديقات الطفولة مها، رضوى ونهى، جلسن معًا في وقتٍ طيبٍ ومرحٍ.

سألتها نهى: متى ستعودين للعمل يا مها؟

تنهدت مها وأجابت: لستُ أدري.

– عامةً كوني مطمئنة لا أحد يعلم سوى أنك مرضتِ وقدّمتِ على إجازة مرضية.

– وذلك في حد ذاته سبب أدعى لترك هذا العمل، حتى لم يسأل عليّ أحدهم.

– دعكِ منهم، متى تريدين العودة عودي ولا تهتمي بأمر أحد، فأنتِ مجتهدة وعملك رائعاً.

فقالت رضوى: أرأيتِ؟! هذه شهادة من أحد أفراد العائلة المالكة.

فضحكن ثم قالت نهى: خاصةً كبير العائلة المالكة، فهو شخصيًا في انتظارك في أي توقيت ودون موعد سابق.

تابعت رضوى بخبث: ومن هذا يا ترى؟

قالت نهى: خمني!

أجابت مها بخزي: لن أقوى على مقابلته بعد كل ما حدث.

سألتها نهى: لماذا ؟ لقد كان ظرفًا طارئًا واختلطت الأمور عندك وقد علم ذلك من الطبيب نفسه، وحقيقةً كان بالفعل أمرًا مفزعًا.

أومأت رضوى: فعلًا، فكلما أتخيل إحساسك أزداد رعبًا، لكن السؤال أتلك الأمور من أفعاله؟!

أجابت نهى: كان قبل ذلك يتعامل مع الفتيات من منطلق التسلية خاصةً أن هن من كن تتهافتن ليقترب من إحداهن، وكان أكثر ما يسعده أن تريده فتاة ولا ينتبه إليها، لكن بات الأمر معكوسًا مع مها لأنها هي التي تجاهلته وتعاملت معه ندًا بندٍ وخليطها الذي جمع بين الجراءة والتلقائية والجنون لذلك فقد ذاب عشقًا فيها فجأة ودون مقدمات، لكنه الآن قد تغير كثيرًا عن ذي قبل.

تنهدت مها قائلة: لقد كانت تجربة صعبة.

فأردفت نهى: ونحمد الله أنك قد انتهيتِ منها، المهم الآن أنتظرك آخر الأسبوع ومعكِ عرائسك تلك، إن جودي وتيم مشتاقان إليكِ كثيرًا، تعالي واقضي معنا يومًا لطيفًا، سأنتظركِ دون أي عذر.

  • أجابت مها: سأحاول، فقد اشتقتُ لهما كثيرًا، أسمعتي يا رضوى؟ عليكِ الانتهاء من مشترياتك قبل يوم الجمعة القادم.

 

(الفصل الثامن عشر)

 

وجاء يوم الإجازة الأسبوعية وذهبت مها بالفعل إلى نهى في بيتها ومعها العرائس المختلفة والحلوى أيضًا وجلست معهم يتسامرون ويضحكون ثم جاء ياسين وكان لا يبدو أنه لم يكن خارج البيت من هيئته وطريقة لبسه العادية حيث كان قادم من الحديقة.

فأهدر مُرَحِبًا: مرحبًا مها! إفتقدناك كثيرًا!

ابتسمت مها ابتسامة باهتة وأجابت: مرحبًا بك! وأنا أيضًا، كيف حالك؟

– الحمد لله، كيف أصبحتِ أنت الآن؟ هل كل شيء على ما يرام؟

– بخيرٍ الحمد لله.

– لازال مكانك محفوظًا في الشركة، فقد كنتِ ماهرة في إقناع العملاء، ونحن جميعًا في انتظارك.

فأومأت مها وقالت: لازلتُ غير متأكدة في رغبتي أن أعود مجددًا، على أية حال سأعيد التفكير لكن بعد زفاف مازن.

فاتسعت ابتسامة ياسين وسألها: ومتى سيكون؟

– بعد أسبوعين.

– بالطبع نحن مدعوون، أليس كذلك؟!

– بالطبع لا!
قالتها مها بثقة فوجم قليلًا ونظر لها بتساؤل، فضحكت وقالت: أنت ونهى أخوتي أي أهل الفرح، والأهل لا يُدعون بل هم من يَدعون.

فقال ياسين بإعجاب: حسنًا، مبارك! وبالرفاء والبنين، المهم الآن أين عرائسك وحكاياتك؟

– حسنًا، معي كل شيء، سأذهب وراء الأريكة أو خلف الستائر وسأبدأ في الحال، أود العودة إلى البيت مبكرًا.

– لا، بل تعالي في الحديقة بالخارج، الأجواء هناك أفضل كثيرًا، كما أني قد أحضرتُ مسرحًا حقيقيًّا للعرائس بدلًا من تلك الأريكة والستائر.

فضحكوا جميعًا ثم خرجوا إلى الحديقة، جلسوا على كراسيٍ موضوعة في الحديقة واتجهت مها بحقيبتها الكبيرة نحو ذلك المسرح ووصلت إلى خلفه، ثم جلست أرضًا، فتحت الحقيبة، أخرجت العرائس ووضعت كل شخصية على حدا حسب ترتيب ظهورها ثم فتحت هاتفها وأخفضت الصوت مستمعة لمقاطع صوتية مختلفة لتختار أحدها كخلفية موسيقية للقصة.

وفجأة شعرت بحركةٍ خفيفة خلفها فارتبكت وشعرت بريبة وبعض الخوف، ترددت قليلًا ثم التفتت ورفعت عينيها، إنه جلال! واقفًا بهيئته الرائعة كما هو المعتاد، حاملًا في يده شيئًا كدفترٍ ورقي كبير وفي اليد الأخرى باقة رائعة من الورد.

لكن في عينيه نظرة مختلفة لم تراها من قبل كأنها شجن، حزن أم ربما شوق كبير، كأنها شفرة غير مفسرة.

نهضت مها واقفة ولازالت عيناها عليه لم تخفضهما والتي لم تخلو أيضًا من تلك النظرة الممزوجة بحزنٍ وشجنٍ مع الشوق ولازال وجهها حاملًا بعض الشحوب.

ابتسمت مها بشوقٍ وسعادة كبيرة وكأن فجأة بدأ يشرق وجهها وبدأ هو يخطو نحوها وهي كذلك، وربما خطواته كانت أسرع قليلًا حتى اقتربا ولم تصبح بينهما سوى بضع سنتيمترات.

ظلا واقفين ينظر كل منهما للآخر في حديثٍ طويل للعيون وكأن الأرواح قد التقت أولًا فتعانقت وصارت روحًا واحدة في جسدين، هل كان عتابًا بعد طول غياب أم بث للحبِّ والأشواق؟

مد يده مقدمًا لها باقة الورد فمدت يدها لتمسك بها لكنه فجأة حملها معانقًا ليكتمل اللقاء بعد لقاء العيون والأرواح فعانقته هي الأخرى بشدة.

فحب كل منهما قد صار أمرًا حتميًا وخروجه من القلب كخروج الروح من الجسد وبعد قليل تركها تقف على الأرض وقبّل جبهتها قبلة طويلة بشوقٍ كبير لكن تعانقا مجددًا عناقاً أطول هذه المرة وهي رسالة من كلاهما للآخر أن لا عيش بدونه ولا طاقة له بأي بُعد وليس هناك إلا أن يظلا يحب كلاهما الآخر ويتمنى العيش معه لآخر العمر.

كان ياسين، نهى والأولاد جالسين جميعًا وفي الانتظار، لكنه طال! وظل ياسين ونهى ينظران لبعضهما من حينٍ لآخر في تساؤل ترى ماذا جرى بينهما!

فلم يجد ياسين بدًا إلا أن اتجه إلى خلف المسرح وكان لا يزال اثنانتهما متعانقين فوضع ياسين يديه حول خصره وتنحنح بصوته ثم قال: لقد مللنا من الانتظار.

فنظر جلال ومها لبعضهما وابتسما ثم جلسا معًا وتقاسما الأدوار فتقمست هي الشخصيات الأنثوية وهو الشخصيات الذكورية وبدءا يقدمان الشخصيات وقد اندمجا كثيرًا معًا.

وكانت هذه المرة الأولى لمها التي ترى جلال يتصرف بطفولية هكذا غير طبيعة شخصيته الحادة، فقبل ذلك رغم إحساسها بصوته، لكن كونها ترى أداءه أيضًا ففي هذا متعة حقيقية وكم شعرت بأنهما متوافقين!

ومر الوقت حتى انتهيا وقد استمتع الجميع وانصرف الطفلان إلى الداخل وجمعت مها أشياءها ثم جلست أرضًا جانب جلال، لا بل داخل حضنه فقد كان يضمها إليه بشدة ويخشى ذهابها بعيدًا مرة أخرى.

بينما ياسين ونهى يجلسان عن مسافة ويحكيان أيضًا.

سألها جلال بعتاب: كيف هُنت عليكِ وابتعدتِ عني طوال تلك الفترة ؟

– عليك أن تلتمس لي العذر، فقد كنت متعبة للغاية واختلطت كل الأمور وصار قلبي وعقلي في اتجاهين متضادين.

– كيف لا تثقي في؟! تمنيتُ لو تأكدتِ أني لن أضرك أبدًا.

– وماذا عن غيري؟!

– لم أجبر إحداهن أبدًا، بل كن من تتهافتن وتقذفن بأنفسهن تحت قدمي، لكن الوضع الآن قد تغير، لقد تأكدتُ أن لديّ قلب ربما كان موجودًا من قبل لكن مجرد عضو نبض ليعيش، ولم تستطع إحداهن يومًا أن تصل لذلك المكان، لكن أنتِ قد تسللتي لا أعرف كيف ووصلتي لذلك المكان البعيد وأحكمتِ الغلق فلا تخرجين ولا يدخل غيرك، إذن فمن حقي فرصة جديدة معك.

– حسنًا، لكن سأعد عليك أنفاسك وسأحاسبك من اليوم على كل خطأ.

– كما تشائين يا قرة عيني.

ابتسمت على استحياء ثم سألته لتغير الموضوع: ما الذي معك هذا؟

-هذا سيناريو لدوبلاج مسلسل قد عُرض عليّ وأحببته كثيرًا وقررت أن تشاركيني في الدوبلاج، دور البطلة.

– فكرة رائعة! وقد أعجبتني، لكن ترى أي نوع هو هذا المسلسل؟

– إنه رومانسي.
فابتسمت دون رد وقد توردت وجنتيها فغمز لها جلال بإعجابٍ ومشاكسة ثم قال: أود معرفة ردك الآن حتى أخبرهم و تحضري للتسجيل من الغد.

– أوافق.

فأمسك جلال بهاتفه وتحدث بعض الوقت ثم رن هاتف مها وردت فابتعدت قليلًا تحادث شخص ما ثم أغلقت الخط واتجهت مسرعة فجأة إلى خارج الفيلا فتعجب منها جلال وأنهى مكالمته سريعًا وهبَّ واقفًا يتبعها لكنه تفاجأ مما رأى.

خرجت مها مسرعة بسعادة بالغة وما أن خرجت حتى وجدت أمامها أخيها مازن يترجل من السيارة فتعلقت في رقبته فحملها ودار بها وتعالت ضحكاتهما.

فقال بعد أن أعادها واقفة لكن لازال مطوقهة: افتقدتك كثيرًا واشتقت إليكِ أكثر أيتها المشاغبة!

– بل أنا التي اشتقت أكثر!

فضحك وربت على وجنتيها قائلًا: أتخادعيني وتخبريني أنكِ مريضة وأنا أرى القمر بنفسه قد هبط من السماء!

– حسنًا! ليتك تظل هكذا بعد زواجك من محبوبتك.

فأومأ قائلًا: لا أيتها المشاغبة! أنتِ في مكانٍ خاص لا يتغير أبدًا، لكن ما الخطب؟ كأن الأمور قد صارت على ما يرام!

فأومأت برأسها مؤيدة مع ابتسامة عريضة، فأكمل مازن: أود مقابلة ذلك السارق، سارق قلبك.

– إذن هل أدعوه إلى حفل زفافك؟

– يا لكِ من حمقاء! هل هناك عريس ينتبه لأحد من المدعويين ليلة عرسه؟ أود لقاءه والتحدث معه.

– كأنه كشف هيئة!

– هل من اعتراض؟! إنه سيأخذ قطعة من القلب.

– هو بالداخل، يمكنك الدخول ومقابلته.

– لا، الآن أنا ذاهب إلى الشقة، لازال ينقص بعض التجهيزات، ثم هو الذي عليه المجئ إليّ، كما أنه لديّ تحفظات على لقاءاتكما، لكن سأتتركك الآن، ولتعودي للبيت بعد قليل وتنتظريني حتى أعود، أنتظر سماعك وبالتفصيل.

– طبعًا.

فقبل جبهتها وركب السيارة فأشارت له حتى تحرك بالسيارة وغادر ثم عادت بداخل الفيلا تتحرك حجلًا بسعادة كأنها طفلة.

وما أن دخلت وسارت قليلًا فإذا بمن يمسك ذراعها بقوة على فجاة.

فتأوهو مها وصاحت: أي نوع من المزاح هذا؟!

صاح جلال بثورة: أتستغفليني أم تريني مغفلًا معتوهًا؟

فجذبت ساعدها بقوة وهي تتألم ثم قالت وهي تدلكه: ماذا تقول؟!

– ماذا؟! كأني لا أكفيكي فتركتيني وذهبتِ لمقابلة غيري حتى في نفس الوقت ونفس المكان! ياللجبروت! كأنك لا تضيعين الوقت!

– أنا لا أفهمك!

– لا يمكن أن تتعاملي معي بهذه الطريقة.

– بل أنت من عليك تغيير الكلام معي لأني لم أقبل هذه الطريقة، وإلا سأذهب فورًا.

– ذه الطريقة الأنسب مع أمثالك.

جزت مها على أسنانها محاولة كتم غضبها ثم قالت: قُل أن هذه السخافة هي طريقة مزحك!

– لماذا؟! هل أمامك طفل؟!

صاحت مها رافعة سبابتها في وجهه: إذن سأكرر فلتنصت إليّ جيدًا! لست أنا من تتحدث إليها  بهذه الطريقة ليس الآن أو حتى بعد حين!

– لستِ أنتِ من تقولين!

كان ياسين ونهى جلسين متسامرين وياسين مداعبًا خصلات شعرها بلطفٍ ويضحكان، وإذا فجأة بصوت جلال ومها يرتفع ويصل إليهما فتعجبا ونهضا إليهما مسرعين.

صاح ياسين: ما الخطب؟! كنت منذ قليل أحجز بينكما حتى لا يحرقكما ذلك العشق الممنوع، وفجأة صرتما تحتاجان لقرار بوقف إطلاق النار!

صاح جلال: إنها تستغفلني.

فقال ياسين مستنكرًا: جلال! لا يصح هذا الكلام!

فصاحت مها: تحدث معي بأسلوبٍ لائق، فأنا أرفض هذا الأسلوب وهذه الطريقة.

فربتت عليها نهى وقالت: إهدئي إذن حبيبتي!

صاح جلال بغضب: من الواضح أنكِ قد اعتادتي على تدليل والدتك ولم تتعودي أن يكون لديك رجل وله كلمة مسموعة عليكِ.

فصاحت مها بغضب هي الأخرى: لا معذرةً! أنت ليس لك أي حق، ولآخر مرة انتقي كلماتك معي وإلا لا تتحدث معي على الإطلاق.

فجذبها من ذراعها بقوة وقال بتوعد: ليس برغبتك.

فصاح ياسين: كفاك يا جلال! إنك ترتكب عيبًا وخطأً كبيرًا.

فأجابت مها بتحدي: بل برغبتي.

صاح جلال: قلت لك للمرة الألف أنا قدرك ولن تهربي مني ما حييتي، ستكوني لي شئتِ أم أبيتِ…. أو لا تكوني على الإطلاق.

فصاحت مها جاذبة ذراعها منه متألمة: أنت إنسان مريض ومختل والتعامل معك مستحيل، فأين ذلك العلاج إذن؟!

فصكها علي وجهها صكة وجمت على أثرها للحظاتٍ مصدومة ثم حملت أشياءها وانطلقت مسرعة.

 

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة الان