رواية ” الجميلة و الدميم ” الفصول من الخامس إلى الثامن الأخير للأديبة نهال عبد الواحد
الفصل الخامس
وإذا بصوتٍ يقطع إنسجامهما هذا: ماذا يجري؟ ما الخطب؟
فالتفت الاثنان لمصدر الصوت فجأة فأكمل صاحب الصوت: من هذه؟
زين باقتضاب: معذرةً أبي! لكنها جميلة ابنة عمي.
فنهضت واقفة وقالت: مرحبًا عمي! لم نكن نعلم أنك في مصر، فلم أسمع بحضورك جنازة أبي!
محمد بتبلد: مرحبًا!
نظرت جميلة بينهما ثم قالت: سأذهب لصنع كوبًا من القهوة لزين، هل تريد عمي؟
فأجاب بنفس تبلده: حسنًا! لا بأس!
حملت جميلة الصينية فتبعها محمد بعينه حتى اختفت من أمامه ثم قال: كيف حالك ابني؟
أجاب بهدوء: في أحسن حال والحمد لله.
فتابع بمكر: ما أجمل هذه الفتاة إنها فاتنة حقًا! ترى كيف تقبّلت هيئتك؟! أراها تتعامل معك بأريحية وتلقائية! فلم تفزع من هيئتك مثلًا!
وقعت كلماته بداخل قلبه قبل سمعه، فتابع يخفي ألمه: لا لم تفزع من هيئتي ولا عاهتي كما ترى، بل تُسعدني وتُدخل السرور لقلبي بشتى الطرق، ترسم ضحكتي على وجهي المشوه ضحكة من القلب، تشعرني بقوتي لا بعجزي، حتى إني كنت قد نسيت هذه الهيئة.
فقال محمد بخبث وهو يؤكد على الكلمات: تسعدك بشتى الطرق!
فصاح زين بانفعال: لا لا، ليس الأمر كما تقصد إطلاقًا، ولن أسمح لمثل هذه الأفكار أن تغزو عقلك هذا، هي إنسانة نقية وطاهرة لا يمكن أن ترتكب الفاحشة حتى و لو أُجبرت، لها عِناد وقوة وعزة نفس لا يعرفها كثير من الرجال.
فأومأ والده برأسه يهزها قائلًا: أجل! فهي ابنة أحمد زين الدين، كتلة العناد والصلابة، المهم هي وقّعت على التنازل أم خدعتك ولم تفعل أي شيء؟
فأجاب بصرامة: هي لم تخدعني ، ولن توقع على شيء، ولن أسمح لها أن توقع على أي ورقة تنازل، معذرةً أبي! لكنه ليس حقك كما تزعم.
فأهدر الأب بغضب: إذن فقد خدعتك وغسلت عقلك.
فتابع زين وتلألأت عيناه بلمعة العشق: أجل هي غسلت عقلي بالفعل، لكن من ذلك الكره والضغينة التي حشوتني بها.
فقال محمد بسخرية: إذن فقد فشلت كما هو المعتاد، ستعيش فاشلًا وعاجزًا أبد الدهر، كم تضيع من فرص لتصبح شيء! لكنك تصر أن تكون لا شيء.
فتابع زين: إن كنت ترى هذا فشلًا، فهذا أعتز به.
فصاح فيه: ماذا تقصد بلامبالاتك هذه؟! هذا لم يكن اتفاقنا، ماذا دهاك؟
– قلت لك أبي أني في أحسن حال، وسأظل في أحسن حال مادامت جميلة معي.
– كأني أرى عشقًا دفينًا!
فتنهد زين بعشق شديد: أجل! فقد أحبتني وأحببتها، أحيت قلبي من سباتٍ عميق أشبه بسبات أهل الكهف، صار لقلبي فائدة غير وظيفته في ضخ الدم لسائر الجسد.
فتابع محمد بشيطنة: يا لك من ماكر! حتى أكثر من أبيك، أوقعتها في حبك وصارت كالخاتم في إصبعك لتصبح كل أوامرك مطاعة، عظيم ابني عظيم! كيف لم تخطر على بالي هذه الفكرة؟! فهي أفضل وأوقع، حب ثم زواج ثم إنجاب أطفال يؤول لهم كل شيء، حقيقة فكرة رائعة وأرحب بشدة بل وأبارك هذه الزيجة.
وكانت جميلة قد سمعت تلك الفقرة الأخيرة من كلام محمد فسقطت فجأة صينية القهوة وبدت معالم الصدمة والوجوم على وجهها، وقفت قليلًا تنظر بينهما ثم انطلقت مسرعة لغرفتها.
وما أن انطلقت جميلة حتى قال زين بانفعال لوالده: لماذا؟ لماذا؟ كل حساباتك بالمال لا شعور لا مساحة للقلب، لماذا تصر على إفساد كل شيء؟! ربما طاوعتك في خطفها في البداية لكني الآن أحبها ولن أقبل بإيذائها وسأقف أمام من يحاول إيذائها أيًا كان.
ونهض من فراشه مسرعًا ليلحق بها متسندًا ثم قطع باقي المسافة حجلًا على قدمه السليمة حتى إنه لم يأبه لذلك الكسر المتناثر أرضًا، ذهب يطرق باب غرفتها يحاول استرضاءها وهو يسمع لصوت بكاءها الذي يؤلمه للغاية.
ويقول متوسلًا لها: أرجوكِ جميلة! صدقيني أنا! أقسم لك إني لم أتلاعب بمشاعرك لأصل لهدف كما قال أبي، ربما خطفتك بوسوسة منه لكني بمجرد اقتحامك قلبي لم أعد أفكر إلا فيكِ وكيف أرضيكِ وأسعدك، ربما لا علم لي بذلك فكيف لمثلي أن يسعدك فالكفتين غير متساويتين على الإطلاق، ما تقدميه وما أقدمه، صدقيني لم تخطر في بالي هذه الفكرة لسببٍ بسيط، لم أتوقع يومًا أن ينظر إليّ أي إنسان نظرة تخلو من الرعب والإشمئزاز وإن كان الحظ معي فستكون نظرة عطف وإشفاق… التي أرفضها بشدة، أرجوكِ صدقيني! كيف لي أن أتوقع أن جميلة ستعشق وحشًا.
ففتحت الباب وهي تشهق من أثر البكاء: كفاك وصف نفسك بهذه الدونية.
فهمس لها برجاء: هل تصدقيني؟
فهزت برأسها أن نعم فضمها إليه وهو يمسح على شعرها برفق ثم أبعدها قليلًا ونظر في عينيها نظرة طويلة ثم قال بحزن: إرحلي من هنا جميلة! إرحلي لحياتك وعملك! لقد صرتي حرة ولا أريد أي تنازل ولن أقبل لك أن تتنازلي ولو عن شبر فهذا حقك.
فصاحت بألم: لماذا؟! لكني أريدك أنت، أريد جوارك، يبدو أنكما قد نسيتما أن لكما حقًا شرعيًا في إرث أبي فأنا ابنة أنثى وليس له أولاد ذكور ولا زوجة، وأنا لا آكل حق غير حقي هكذا رباني أبي، لكن لا تدعني أتركك، لا تبعد عني.
فأهدر زين بألم: هكذا اقتضت نهاية أكثر حكايات العشق الملتهب إن لم تكن كلها، النهاية الحتمية، الفراق.
فوضعت يدها على فمه وقالت: أرجوك لا تقولها!
فقبّل يدها تلك ثم أبعدها بهدوء وقال: ابتعدي الآن حتى أشعر أنني قادرًا على حمايتك، حتى أشعر بوجود دور أقوم به، حتى ألملم نفسي، وقتها فقط ستجديني أمامك سندًا ترتكزين عليه وليس عبئًا جديدًا.
فهمست: زين…
فقاطعها: ششش! هيا استعدي! سأتصل بهم يعدون سيارتك لتعودي لبيتك، لا بل سأرسل أحدهم معك لحراستك حتى أطمئن عليكِ.
فابتلعت ريقها وهي تقول بأمل: إذن فلنتحادث عبر الشات.
فأومأ برأسه أن لا قائلًا: لا، لا أحبه كما تعلمين، أحب أحدثك وعيناي في عينيك.
فأغمضت عينها فلا تجد أي سبب لتبقى لكنها لمحت بطرف عينها قدمه تنزف فصاحت فيه: زين! لقد جرحت قدماك، أنا السبب ليتني……
فقاطعها: ششش! لا يهم أنا بخير.
فهمست بتوسل: إسمحلي أضمدها لك، أرجوك!
فسارت معه تسنده وتتجه معه نحو غرفته، بالطبع كان كل شيء على مسمع ونظر أبيه.
دخلت معه غرفته حتى جلس في فراشه ومدد برجله فأحضرت علبة للإسعافات كانت موجودة فمسحت الدماء ولم يكن جرحًا غائرًا فمسحته بمطهر ووضعت كريمًا مضادًا ثم وضعت عليه لاصقة.
نهضت واقفة واتجهت لغرفتها تبدل ملابسها ولما انتهت عادت إليه لكنه امتنع عن لقاءها ثانيًا، طرقت بابه كثيرًا بلا فائدة ولا رد، فاضطرت للإنسحاب والذهاب ودموعها تنهمر دون توقف.
ركبت سيارتها بالخلف وتولى ذلك الحارس الأمين قيادة سيارتها وتوصيلها وحراستها كما طلب منه.
ركبت ولازالت تبكي طوال الطريق وتحدث نفسها:
أتحرمني منك؟ أتبعدني عنك؟!
رغم أن ليس لك حبيب غيري!
لماذا تحرمني من قلب ؟ ويظلمني حبك؟!
أتنسى الهوى؟! فبعدك هذا يؤلمني.
كأنك طير هرب من صاحبه وظل محلقًا لأعلى وصاحبك يرجوك ويتمنى أن تنزل إليه، وليس أمامي إلا أن أصبر عليك يا طيري رغم كل حيرتي وألمي، لكني لازلت أتسآل لمتى يطول ذلك البعاد الذي حكمت به علينا بلا مبرر؟!
وماذا يفيد؟!
لكن أعلم أنه مهما طال ذلك البعد فهواك قدري
و حبك وحده هو دوائي.
هكذا عادت جميلة لبيتها حزينة وبائسة، فقد كانت من سويعات فقط أسعد مخلوقة فهكذا الأحوال تتغير!
دخلت البيت و وجدت مربيتها في انتظارها، ربما لم تكن تعلم بموعد وصولها لكنها هكذا كل يوم تنتظرها، وما أن رأتها حتى تنحت من أمامها في غضبٍ واضح.
لم يكن لجميلة طاقة لمزيد من الألم، لكنها أسرعت نحوها.
تنادي عليها بوجع: دادة! ما هذه المقابلة؟! هكذا تقابليني بعد طول بعاد!
المربية بجمود: لقد نشأتي وترعرتي أمامي في بيت له من الآداب والأخلاق والقيم، لكنك وبكل أسف ضربتي بكل شيء عرض الحائط وظننتِ أنه بوفاة والديكي صار بإمكانك التسكع كما تشائين!
فصاحت تدافع عن نفسها: لا والله! أقسم لك ما فعلت ذلك قط، إنما هي ظروف اجتاحتني وارتطمت بي تحملني لأعلى وأسفل حتى ألقت بي كما ترين، لا إياك ونظرة الشك هذه! فلازلت بقيمي وأخلاقي، سأحكي لك كل شيء .
وجلست جميلة تقص عليها كل ما حدث منذ يوم اختطافها وحتى وقوفها تطرق باب زين بلا فائدة، كانت تحكي وتزيد بكاءها متألمة وتنصت إليها مربيتها بنفس الألم والحسرة، وما أن انتهت من السرد حتى ضمتها إليها فزاد نحيبها فربتت عليها تهدئها.
وقالت: إهدئي ابنتي! وسامحيني على سوء ظني بكِ، لكن إعلمي أن من قدّر لكما ذلك الحب قادر على أن يجمعكما معًا ولو بعد حين، فهو وحده من يقول للشيء كن فيكون، ستُحل وستُفرج بإذن الله، هيا ابنتي اذهبي لغرفتك واستريحي وسأعد لك وجبة خفيفة.
نهضت جميلة من أمامها وهي تشهق من أثر البكاء حتى صعدت غرفتها وهي على نظر تلك المربية المشفقة عليها ثم قالت لنفسها: إن الأعوام لتغير كل شيء إلا أنت يا محمد ستصبح كما أنت، حتى إن الحجر ليلين وتنفجر منه عيون الماء أحيانًا!
……………………………………….
(الفصل السادس)
وفي الصباح التالي قامت وأعدت نفسها لتعود للعمل من جديد كما عادت من جديد للون الأسود، ربما لأنه معبر عن حالها الآن.
خرجت من غرفتها وأكلت لقيمات قليلة وهي شاردة في أيام مضت بينهما، كيف كانت تطبخ وتعد والوجبات؟ وكيف كان يساعدها ويتشاركان الطعام وكل شيء؟! ثم تتنهد لوجود ذلك الفراغ الكبير الذي تركه وتردد بداخلها هو ليس بعيد بل قريب.
ومربيتها تتابعها وتشفق عليها من داخلها وإن كانت تبدي غير ذلك، ثم وقفت جميلة لتخرج وكان ينتظرها ذلك الحارس الأمين الذي عينه لها زين.
صحبها هذا الحارس حتى وصلت المصنع وبدأت تتابع عملها، رغم أنها تلاحظ تلك النظرات والهمهمات لكن لا بأس المهم العمل والإنجاز فيه حتى قابلتها صديقتها والسكرتيرة الخاصة بها وسلمت عليها سلامًا حارًا ثم جلستا تتحدثان في أمور العمل وما أن انتهتا حتى أكملت جميلة: ماذا بك؟ كأن هناك مزيد من الكلام لازال يقف في حلقك؟!
فأجابت بتردد واضح: حقيقة تلك الفترة التي غبتي فيها، صراحة…..أ.. أ…..
فقاطعتها جميلة: قيل عني كل ما هو غير لائق، لأني فتاة سيئة ما أن توفى أبي حتى تركت نفسي للسقوط في الوحل لأنه ليس هناك ضابط ولا رابط، هكذا قيل!
فهزت برأسها أن نعم مع بعض الإحراج، فأكملت جميلة: وتودين التأكد الآن من حُسن سيري وسلوكي أم طلب منك زوجك قطع علاقتك بي فلا يمكن أن تعرفي أمثالي.
فردت عليها: أنا أعرفك جيدًا وأثق بك لكنهم…….
فقاطعتها بصرامة: ليس لأي شخص أي حق أن يصدر حكمه عليّ، أما هم فكل ما بيني وبينهم الإتقان في العمل وحسن التقدير ولاشيء غير ذلك، أما من يربط الأمور ويدخلها في بعضها فلا حاجة لي إليه.
فقالت لها تحاول تهدئتها: لا عليكِ منهم، المهم أود الإطمئنان عليكِ كأن بداخلك جرح عميق.
فأجهشت بالبكاء ثم بدأت تحكي لصديقتها كل ما حدث فأشفقت عليها مما قالت وربتت عليها.
في الأيام التالية حاولت جميلة الإنغماس في عملها ربما تكون أفضل لكن بمجرد الإختلاء بنفسها تجد ذكرى تلك الأيام تمر أمامها فتزداد ألماً فآلام الفراق والشوق شديدة.
أما هو فقطعا ينقصه الكثير، فغيابها عنه كأن أحدهم يقطع من قلبه كل لحظة فيُدمي جرحًا لا يلتئم أبدًا، يشعر بنفسه كمن تعلّقت روحه فلا يهنأ بحياة ولا يموت ويرتاح، بل عليه أن يتجرع المزيد من الألم دون هوادة ولا هدنة.
وكلما دخل غرفتها شعر بطيفها يحيط به من كل جانب فينام في الفراش مكانها ويتحسس وسادتها فيجد بعض الشعرات من أثر نومها فيبدأ بجمعها ويلفهم باحتراس على ورقة صغيرة ثم ينظر لهم حينا ويشتم رائحتها فيهم حينًا أخرى.
وذات يوم كانت جميلة في مكتبها تباشر عملها وفجأة دخلت عليها السكرتيرة وعلى وجهها علامات الزعر والفزع فتعجبت لها جميلة ثم سألتها: ما الخطب؟ كأنه قد ظهر إليكِ أشكيفًا مخيفا!
فأهدرت بفزع: أ..أ..أجل!
فرفعت جميلة حاجبيها بدهشة: ماذا؟ أيتها المختلة! أجيبيني ما الخطب؟!
فأجابت بفزع: شخص ما يريدك، لكن… لكن……
فتأففت جميلة وتزمرت منها: يا إلهي! أريد جملة مفيدة.
– أقصد هيئته…… وجهه…….
وهنا فقط انتفضت جميلة من مكانها بسعادة غامرة كاد قلبها يخرج من مكانه، وأسرعت لخارج مكتبها خلال لحظات معدودات وجدته واقف يعطيها ظهره مرتديًا معطفًا خافيًا رأسه وجزء من وجهه بغطاء الرأس الخاص بالمعطف و مرتديًا نظارة شمسية كبيرة نوعًا ما، لكن لازال يظهر من جانبي وجهه تلك الأثار المشوهة.
وبمجرد أن رأته جميلة حتى نادت بفيضٍ من الشوق والعشق الدفين: زين!
فالتفت إليها بتردد وهو ينظر للأرض فقد رأى نظرة الرعب في عيني تلك السكرتيرة، لكنها لم تعطي له أي فرصة وأسرعت نحوه وتعلقت في رقبته فحملها إليه معانقًا عناقًا طويلًا يدفن وجهه وسط شعرها ويتنفس رائحتها ربما تمتلأ بها رئتيه فيستطيع تحمل بعدها عنه بعد ذلك.
كانت جميلة تبكي بشدة بين أحضانه فأنزلها وأقفها أرضًا نظر إليها ومسح دمعها بيده، قالت بصوت مختنق: لقد افتقدتك كثيرًا، كيف تتركني طوال هذا الوقت؟!
زين: كنت أود مصلحتك والأنفع لك، لكن لم أقوى، وجدت قدماي تسوقاني إليكِ، خطفتيني!
فقالت تحاول المزح: بل أنت من خطفتني، خطفت قلبي.
فتابع وهو يمسد على شعرها: لا، بل أنتِ، فقلبي معك الآن أخذتيه وتركتك تتركيني وأظل بدونه فلم أقوى، كم زاد شوقي إليكِ! ظننت أني سأنساكِ لكن والله ما استطاعت ولا مجرد لحظة! قد تعبت كثيرًا ولم أرتاح إلا الآن بجوارك أنتِ، أنتِ من غيرتيني وحولتيني لشخصٍ آخر عاشق متيم فتح عينه عليكِ أنتِ.
فابتسمت قائلة: إذن فلا بعاد ولا فراق بعد اليوم.
فقاطعها: لكن…….
فوضعت يدها علي شفتيه قائلة: ششش! لا تفكر فقط اتبع قلبك، هيا بنا الآن، أود أن أعرفك على مربيتي، ستحبها كثيرًا.
فقاطعها مجددًا: لكن…….
فقاطعته مؤكدة وهي تجذبه من يديه: لا ستجئ معي وبدون لكن.
لم يملك زين إلا أن يذهب معها للبيت، بينما وقفت تلك السكرتيرة تتعجب وتضرب كفًا بكف، من هذا الذي تقع في هواه صاحبتها إنه مجرد مسخ دميم، وجهه مفزع كيف عشقته؟ لا، الأولى كيف تقبلت النظر في وجهه؟!
وا حسرتاه عليكِ يا جميلة الجميلات! وكأنك تزجي بنفسك بداخل صندوق قمامة متعفنة.
وصلت جميلة وزين للمنزل بصحبة ذلك الحارس الأمين ودخلا معًا، وكان زين في حرجٍ شديد نظر للأرض يخشى من ردة فعل مربيتها أن تشبه ردة فعل صاحبتها وقد ظهر توتره في هزة رجله السليمة.
جاءت المربية بصحبة جميلة التي فوجئت بشكله، فلم تتوقع أن تكون دمامته لهذه الدرجة، لكنها تداركت الموقف سريعًا ورسمت على وجهها ابتسامة قبل أن يرفع بنظره إليهما.
رفع زين نظره نحوهما فوجد تلك المربية تبتسم إليه فنهض واقفًا وسلم عليها ثم جلس، كان من ربكته وتوتره ظل ناظرا للأرض ربما كان ذلك أفضل لأن تلك المربية كانت تجاهد نفسها لتقوى على تلك الإبتسامة فعدم انتباهه لها بشكل دائم جعله لا يلاحظ ذلك.
جلس ثلاثتهم يتحدثون في أمور مختلفة وبدأ ذلك الشاب يدخل قلب المربية بالفعل فما ذنبه إن تعرض لحادث مثل ذلك؟! إنه أمر مقدّر وخارج عن إرادته ولا يمكن لأي إنسان أن يضمن ألا يصاب بمكروه طوال حياته، ويكفي أنه حنون ويحب جميلة بشدة وإن كان على مستقبله فجميلة حتمًا لن تتركه هكذا مؤكد ستتعامل معه التعامل الأمثل بشأن ذلك الأمر.
تركتهما المربية ودخلت لتعد الطعام وكان زين يشعر بسعادة واضحة لتقبل تلك المرأة له، ثم جلس الجميع وتناول الطعام في جو من الألفة ثم انتهوا وجلست جميلة مع زين من جديد ثم طلبت منه أن يجئ معها لحجرة مكتب أبيها.
جلست تريه صورًا تذكارية لها في طفولتها ولوالديها وصورًا أخرى لأبيها في شبابه وأخرى في طفولته وهناك صوراً تجمعه بأخيه كان ظاهرا فيها كم الحب والحنان الذي يكنه لأخيه بينما هذا الأخ بنفس جموده.
كانت جميلة ترى تلك الصور لزين بطريقة عفوية لكنها كانت أكبر دليل على حنان عمه ودناءة أبيه وقد آلمه ذلك كثيرًا.
ربما قد تمنى أن يكون أبيه محقًا حتى يظل لديه مبررًا يعلق عليه قسوة وجمود أبيه، لكن اليوم قد تأكد أن الأمر طبع وليس صفة مكتسبة.
ثم أحضرت جميلة ملفًا و وضعته أمام زين ثم جلست بجواره فنظر نحوها متسآلا.
فقالت بهدوء: هذا الملف الذي حدثتك عنه من قبل، بداية تلك ورقة تفيد بتنازل أبيك عن نصيبه بالورشة، وهذا عقد فيه مواصفات تلك الورشة بالحالة التي تركها جدي رحمه الله، وتلك الأوراق بها حسابات والدي دخله، والجمعيات التي كان يدخلها، وأثمان لمقتنيات كان يبيعها ليأخذ ثمنها ويكبر به عمله، وبعض السلف من بعض الناس، كل شيء وكل قرش دفعه أبي حتى اشترى ذلك المصنع وكل مراحل تطويره حتى أصبح بالهيئة الكائن عليها الآن.
فتسآل: لمَ تريني كل هذا؟ فقد وثقت بك ولم أعد بحاجة لإثباتات.
فاخذت الملف وأعادته لموضعه ثم جلست بجواره من جديد وقالت: بماذا تفكر زين؟
– بشأن ماذا؟
– حياتنا ومستقبلنا معًا.
– سأتقدم لخطبتك ولنتزوج فورًا فلا طاقة لي ببعدك.
– ولا أنا أيضًا، لكني أقصد أيضًا الحياة العملية، ماذا تفكر بشأن عملك؟
– لا أعرف.
– عليك أن تعرف! أنت محامي وقد قلت لي يومًا أن لديك مكتب فلم لا تفتحه وتعاود العمل فيه، كما أني صرت بحاجة لمستشار قانوني بالمصنع.
– أتريديني أن أعمل عندك؟!
– لا بل ستعمل في ملكك، هل نسيت أن لك حق في إرث عمك، وبما أننا سنتزوج فكلانا متشاركين.
فقاطعها: لكن…….
فقاطعه صوت يتدخل في حوارهما: لكن ماذا أيها الأبله؟!
…………………………………….
الفصل السابع
بينما كانت جميلة تقنع زين بمعاودته لفتح مكتبه والعمل معها في المصنع كمستشار قانوني إذ قاطعهم صوت: لكن ماذا أيها الأبله؟!
فالتفت زين وجميلة ناحية مصدر الصوت فوجدا محمد والد زين.
فسأله زين على مضض: ما الذي أتى بك إلى هنا أبي؟!
فأجاب محمد بلامبالاة: أليس هذا بيت أخي؟! كأني قد تركته بالأمس فلم يتغير كثيرًا.
فقالت جميلة بعملية: تفضل عماه!
وهي تشير إلى خارج المكتب فخرج محمد وتبعه زين وجميلة وجلس الجميع.
ثم قالت: فلنحل الأمر عمي، أتمنى أن تُصدقني القول وتخبرني، بالله عليك ماذا تريد مني؟ لكن رجاءً بلا اتهامات لأبي فأنت تعلم جيدًا أنه لم يسرق إرثك يومًا، فلم إذن تعادينا حتى بعد وفاته؟!
فأجابها وهو يضع ساقًا فوق الأخرى: ربما تكوني محقة في أنه لم يسرق إرثي، لكنه سرق كل شيء، سرق محبة والدي وسرق الفتاة الوحيدة التي أحببتها.
فتابعت بهدوء: ولمَ تسميها سرقة؟! لقد كان أبي إنسانًا محبوبًا وبارًّا بوالديه لذلك أحباه، أما أمي فقد كانت جارتكم وقد أحبت أبي وأحبها، ومن حق كل إنسان أن يحب كيفما شاء ومن يريد لأن الإختيار حينها يكون لا إراديًا، لكن كل ما ذكرته ليست أسبابًا.
فتسآل بحنق وحقد واضح: لماذا تفضله عليّ؟
فأجابه زين بألم: لأنك مع كل أسفي لا تعرف كيف يكون الحب، حتى إنك لم تحبني وأنا ابنك!
فقال محمد مبررًا: تلك مخيلات في رأسك وحدك.
فرفع زين كتفيه بقلة حيلة قائلًا: ربما، لكن لم تقل حتى الآن ماذا تريد من جميلة؟
فأردفت جميلة: قبل أي شيء، إن لك حق في إرث أبي لا أنكره فلم تكن بحاجة لاختطافي أو مثل تلك الأمور.
فأجابها عمها بنفس حقده: لكني أريد نصف ما تملكين فهذا تعويض مناسب لما لاقيته من ظلم طوال حياتي.
فصاح زين: مالك أبي تذهب لنفس النقطة! أنت لم تُظلم، أنت جنيت فقط نتيجة أفعالك، لو كنت ولدًا بارًّا لأحبك أهلك، لو كنت تفكر بالآخرين لأحبتك حبيبتك، لماذا تفعل كل هذا؟ لماذا تود حتى أن تفسد بيننا؟ وكأن كوني أحب وأجد من تحبني أمرًا لا أستحقه! لأن كل ما جنيته أني ابنك وافتقدتك لكنك تركتني بلا سبب محدد وتأتي إليّ كل أمد لتذكرني بعاهتي بدلًا أن تساعدني أتخطى الأزمة، وكنت ستؤدي بي في قضية عندما جعلتني أخطف ابنة عمي ولم أدري لما أطعت أوامرك ربما لأني أردت أن أشعر برضاك عني، لكن على أية حال كان ذلك أجمل شيء حدث لي على الإطلاق لأني قابلتها وأحببتها وسأفعل كل شيء من أجلها حتى لو اضطررت للخروج للمجتمع من جديد ومواجهته.
جميلة بسعادة: حقًا؟!
فأجابها بعينين تضخان كل العشق: أجل، لأجلك أنتِ، لأجلك أنتِ سأفعل أي شيء.
فصاح محمد: وأنا لن أبارك هذه الزيجة إلا بعد إمضاءك لذلك التنازل.
فصاح زين: كفاك يا أبي! إتركنا وشأننا.
فقالت جميلة بهدوء: حسنًا حسنًا عمي سأفعل، المهم أن نصبح معًا.
فعارضها زين: لا يا جميلة، لن أسمح لك أن تتنازلي عن أي شيء، وإلا فلن تريني ثانيةً وسأختفي ولن تجديني أبدًا.
فصاحت جميلة: كفاكما! لماذا تفعلان بي هكذا؟ تنازلا قليلًا!
فنهض زين قائلًا بجمود: إذن أنتِ من اختارتي.
وتحرك زين مسرعًا للخارج وأسرعت خلفه جميلة لتلحق به لكنه كان كمن غشّيت عينيه وانطلق بلا هدف، لكن فجأة دهسته سيارة مسرعة، وصرخت جميلة بملئ صوتها فخرج محمد، المربية والجميع ليجدوا زين ملقيًا في بركة دماء لا يعلم إن كان لازال على قيد الحياة أم لا.
ونُقل سريعًا إلى المستشفى ودخل إلى غرفة العمليات مباشرةً فقد كان ينزف كثيرًا وأكثر مكان قد تضرر هو وجهه فقد كان محطمًا تمامًا.
وقفت جميلة تنتظر وتبكي بكاءً شديدًا وإذا بمحمد تجده قد أتى فصاحت فيه: ماذا تريد؟ لماذا أتيت؟ أرأيت ما حدث له بسببك؟ هل ستنفعك الأموال؟ لكن كيف لتلك الأمور أن تهمك؟ لكن أقسم لك إن حدث له مكروه لن أتركك، ولن تأخذ مني مليمًا وسترى مني وجهًا لم تتخيله حتى في أحلامك.
فقال بنبرة نادمة: إهدئي ابنتي! لم أعد أريد شيء سوى سلامته.
فهمست بوجع: للأسف كأنك قد فهمت متأخرًا.
فربت عليها قائلًا بحنان: إطمأني سيكون كل شيء على ما يرام يا ابنتي!
فصاحت فيه وهي تنزع يده عنها: لا تقل ابنتي! ولا تتحدث إليّ!
ثم التفتت ناحية باب غرفة العمليات وتمتمت بتوسل: يا ربِّ لا تحرمني منه، يا ربِّ اكتب له الحياة و الشفاء، تمسك بالحياة يا زين! تمسك بالحياة يا حبيبي ولا تتركني، لا تتركني، تمسك بالحياة أرجوك، يارب!
ومضت ساعات وساعات وهما منتظران بلا حراك لا يملكان سوى الدعاء له بأن تكتب له النجاة، وبعد طول انتظار أخيرًا خرج الطبيب فأسرعت إليه جميلة المنهارة ومحمد يقولان في نفس واحد: كيف صار؟
الطبيب بصوت حزين: الحالة لازالت حرجة، والساعات القادمة ستحدد نجاح العملية، هناك كسور في أنحاء جسده حتى في الوجه بالإضافة لذلك النزيف الداخلي، حاولنا السيطرة عليه بقدر الإمكان وزرعنا شرائح بين العظام المتكسرة، لكن لا زال الوضع غير مطمئن إدعو له.
وتركهما وكانت جميلة تبكي بشدة حتى سقطت أرضًا على ركبتيها وإذا بغرفة العمليات يفتح بابها ويخرج زين الغائب عن الوعي ومربطًا وجهه بالكامل إلا فتحات لعينيه وأنفه وفمه على السرير المتنقل وجبائر في ساقه السليمة وذراعه.
نهضت جميلة واقفة وسارت جوار ذلك السرير المتحرك أثناء تحرك الممرضات بزين ليتجه لغرفة العناية المركزة وهي تصيح: تمسّك بالحياة زين، أنا في انتظارك، تمسك بالحياة أنا جميلة، تمسك بالحياة أرجوك.
مضت الأيام الأولى وكان لايزال فاقدًا للوعي وموصل جسده بالأجهزة في غرفة العناية المركزة، وكانت جميلة شبه مقيمة في المستشفى فطوال اليوم تقف بجوار ذلك الجدار الزجاجي لتراه.
وكان أحيانًا يسمح لها بالدخول فكانت ترتدي غطاء الرأس، القدمين والكمامة، تدخل ثم تجلس جواره وتزيح تلك الكمامة وتهمس له في أذنه تذكره بنفسها وبذكرياتهما معًا وتطلب منه بتوسل أن يتمسك بالحياة ولا يستسلم لحالته فهي لازالت تنتظره وستنتظره مهما طال الوقت.
وذات يوم وقد بدأت مؤشرات الأجهزة تشير لبداية تحسنه وكان أحيانًا يلاحظ تحرك طفيف في جفنه أو صوت أنين أو عندما تمسك جميلة بيده تشعر بضغطة بسيطة من أطراف أنامله وكلها مؤشرات تدل علي بداية تحسنه حتى بدأ يستعيد وعيه بشكل كامل لكن كان يتحدث بخفوت وصوت متقطع.
فنادته بهمس: زين! أنا هنا جوارك، هل تراني؟ هل تشعر بوجودي؟
فهمس بوجع: آه!
– إطمأن ستكون بخير، كل شيء سيكون على ما يرام، أنا جميلتك معك وجوارك.
فضغط على يدها فانحنت وقبلتها فتلمس بأصابعه وجهها فابتسمت له.
ومرت أيام وأيام وجميلة تجيئه يوميًا وكانت حالته قد بدأت في التحسن لحد كبير لكن لازال يتغذى عن طريق الرايل الموصل بالمعدة فهو لا يقوى على تحريك وجهه وفكيه بسبب الكسور والجروح وكان لازال وجهه مغطى.
وذات يوم بينما كانت جميلة تجلس معه وكانت تطمئن على حالته من الطبيب المعالج يوميًا.
تحدث زين ببطء وصوت متقطع: إلى متى ستظلين هكذا مقيمة هنا؟
فأجابت بحب: إلى ما شاء الله حتى تتحسن تمامًا، لقد أخبرني الطبيب اليوم أن الأشعة الأخيرة تشير لبداية التحام الكسور، وهذا عظيم!
فأهدر زين بوجع: كفاكِ!
– كفاني ماذا؟! سأظل معك للنهاية لقد تحسنت كثيرًا فكيف كنت وكيف أصبحت؟! هذا غير أهم خبر، سيتابع حالتك طبيب تجميل!
فأجاب بنبرة يائسة: قد علمت، لكن هذا لا يعني أي شيء.
فتابعت بحب: لا تكن يائسًا هكذا! الأمل موجود.
فقال بصرامة: وإلى أن يصبح حقيقة اتركيني لمصيري، سأخرج من حياتك حتى أصبح بهيئة طبيعية.
فقالت تحاول التخفيف عنه: كفاك أنت حديثك هذا! أنا معك في كل أحوالك حلوها ومرها.
– لن أدعك تسجنين نفسك في سجن مسخ، أعلم أنك تتقبليني لكن إلى متى عام إثنان! وإن افترضت أنك لن تتغيري أبدًا، كيف ستتقبلين نظرات وكلمات السخرية من المحيطين أم أعزلك عن كل العالم، وإن رُزقنا يومًا بأطفال كيف سيتقبلوني بهيئتي هذه؟ وإن تقبلوني كيف سيتقبلون نظرات أصحابهم وسخريتهم من أبيهم.
– لماذا تفكر بهذه الطريقة؟!
– لأنها الطريقة المثلى، وكلامي هو الأصوب والأوقع.
– لكني لا أطيق فراقك.
– صدقيني ولا أنا، لكن سأبتعد وأختفى من حياتك إلى أن أصبح في هيئة أفضل، وإلا…..
– وإلا ماذا؟!
فالتفت بعينيه عنها ثم قال: فراق.
فصاحت بصوت اختنقه البكاء: زين………
فقاطعها بجموده المعهود: إن الكلام أجهدني، لا تجيئيني مرة أخرى لأني لن أقابلك.
وأغمض عينه يكتم دمعه وأيضًا لأنها أسرع حركة يتمكن من فعلها الآن!
…………………………………..
(الفصل الثامن والأخير)
خرجت جميلة من المستشفى تكاد لا ترى أمامها من شدة البكاء وربما من هول الصدمة في تلك اللحظة، لحظة الفراق، هل هو حقًا فراق أم ماذا؟!
هل تلومك على ما قولته أم تلتمس لك العذر؟!
هل كلا منهما سيذهب في طريق حقًا؟!
لأن ليس كل ما نتمناه في هذه الدنيا نجده، ولأن أول الفراق صعب وبعد فترة سينسى كل منهما الآخر وستهدأ نار الحب!
أم سيظلان في كلمة ياليت؟!
عامةً في تلك الدنيا الكثير الذي يخفى عنا ومهما كان القرار مدروس فنتيجته الفعلية غير معلومة.
هكذا تفكر جميلة طوال طريقها إلى البيت وحتى بعد مرور شهور وشهور بلا أي خبر، لم يعد لديها سوى أن تشرد في ذكريات مضت وأمنيات تتمناها.
أما زين فربما ما يلاقيه من آلام عمليات التجميل المتكررة وعمليات لإلتئام عظامه كانت تكفيه، لكنه لم يخلو هو الآخر من آلام الفراق رغم كونه صاحب قرار أن تتركه حتى يشفى ويكون أفضل، فلم يكن يتمنى لها الشقاء حتى لو معه.
لكن ذلك لم يمنعه من الحنين إليها، وأمنيته ألا تنساه وتظل على ذكراه حتى لو كان طلب منها عكس ذلك، فهو لم يحب ولم يرى غيرها ويشعر أنها كل ماله في هذه الحياة، ذلك الجمال الرائع وتلك العيون الساحرة التي لمست قلبه وأنسته ألمه وجراحه.
لكن ذلك الفراق هو الآن أصعب عذاب وكلما طال الغياب زاد العذاب ولم يكن يراعي ذلك في الحسبان وظن أن الشوق مع الأيام سيبرد.
وكعادتها جميلة تغمس نفسها في العمل وتهرب فيه، وقد تطور ونهض بالفعل مستوى المصنع كثيرًا في تلك الأشهر الأخيرة مع العمل المستمر.
وذات يوم بعد شهور وشهور بينما كانت تتابع العمل في المصنع إذ دخلت إليها السكرتيرة بظرف و وضعته أمامها على المكتب.
كانت جميلة مشغولة فلم تفتحه توًا حتى كاد ينتهي اليوم وبدأت تعد نفسها لتعود للمنزل فقد تعبت اليوم كثيرًا.
لكنها تذكرت أمر ذلك الظرف وأمسكت به تتلمس بيدها أنها ليست مجرد رسالة ورقية فهناك شيئًا آخر، لكنها ما أن قربته إليها لتفتحه جذبتها تلك الرائحة فاشتمتها وأخذت نفسًا عميقًا وهي تغمض عينها مبتسمة، إنها هي تلك الرائحة التي جذبتها منذ أول يوم، إنها رسالة منه.
ففتحت الظرف مسرعة فإذا بداخلها زهرة نفس الزهرة التي أعطاها لها يومًا، ثم ورقة صغيرة مطوية فأخذتها وفتحتها لتقرأها:
«إلى صاحبة أجمل عيون، إلى أجمل حكاية حب لم أنساها لحظة، حب كبير حب العمر، إن أحس قلبك بي انتظريني غدًا في السادسة مساءً، عند……….
وحتى ألقاكِ لكِ قلبي وكل أشواقي»
كانت تقرأ وكادت تقفز من شدة الفرحة، إذن قد شُفيَ وعاد للحياة من جديد، لكن كيف سأعرفك؟ مؤكد سيدلني إحساسي، هكذا تقول لنفسها.
وأول شيء فعلته أن ألغيت كل مواعيدها في الغد فلديها الكثير من الأشياء التي ستفعلها ستذهب أولًا لشراء فستان جديد، لا تفكر في شكل محدد لكن تنتظر أن يجذبها شيء مميز، وبالفعل تركت المكتب وترتسم على وجهها أجمل ابتسامة وذهبت هنا وهناك تبحث عن ما يجذبها حتى أخيرًا وجدت مطلبها بعد ساعات من البحث بين المحلات.
عادت للبيت ودخلت في فراشها لتنام لكن الفرحة قد سرقت النوم من عينيها، ما أن تغمض حتى تصحو من جديد وتنظر في الساعة وتتأفف فلازال الليل طويل، متى سينتهي؟ متى سيجئ الغد؟
وهكذا طوال الليل حتى بدأ النهار أخيرًا يشق الكون بنوره وهبت من نومها لتبدأ في إعداد نفسها لذلك اللقاء الهام.
وبعد إعدادات طالت لساعات صارت جميلة على أتم استعداد تطل في فستان أصفر فاتح اللون رائعًا يضيق من أعلى حتى الخصر ثم ينزل باتساع مكشوفًا قليلًا من الكتفين، وأسدلت شعرها على ظهرها هكذا بدت بسيطة.
ذهبت للمكان المتفق عليه في السادسة وكانت تتلفت في كل اتجاه ولا تعلم هيئة من تبحث عنه لكنها على ثقة أن قلبها سيدلها الآن.
كان المكان مصحوب بحديقة فسارت فيها قليلًا ولازالت تتلفت حتى تعثرت قدمها فجأة فوجدت من يسندها فالتفتت نحوه، إنه شاب وسيم ظلت تنظر ببلاهة وعدم استيعاب حتى نظرت في عينيه الرماديتين هي نفس العينين التي عشقتهما، نفس العينين التي ترسل كل الحب والأشواق منذ أول مرة التقيا.
كان لايزال ممسكًا لها يد تسند ظهرها والأخرى ممسكة بيدها، ضحك منها لتعبيراتها تلك الغير مصدقة، لكنه فجأة جذبها نحوه قربها منه ثم قال: ألازلتِ تشبهّين عليّ؟!
فهمست محملقة فيه: هي نفس عينيه، إذن أنت زين.
وتعلقت في رقبته فضمها إليه أكثر وهمس إليها وهو يملأ رئتيه بعطرها: افتقدتك كثيرًا حبيبتي، لم أنساكِ لحظة يا أحلى حب وأول مشاعر تنتاب قلبي وتعصف به، أرى في عينيك كلمة أحبك فهل تريها في عيني؟ جميلة! هل تقبليني زوجًا؟! لقد تحسّن كل شيء حتى أني قد عاودت أداوم عملي بالمكتب.
فابتعدت قليلًا وقالت: إذن سأحدد لك مواصفات من تجئ إليك لرفع أي دعوة.
فضحك بملئ فمه فازدادت هيامًا ثم قال: أعدك ألا أتركك أبدًا، وأعدك أن أفعل كل مايرضيكِ، وأعدك بتلبية أي طلب لك حتى لو نجمة من السماء، أعدك بالسعادة حبيبتي.
فهمست بشوق: أحبك!
فتابعها بنفس شوقه: بل أنا أكثر، ما رأيك لو ذهبنا لنقضي أول أيامنا وليالينا في مدينة أسوان؟
فأهدرت بسعادة: ما أجملها من فكرة! لكن لماذا أسوان بالتحديد؟
فأجاب بعشق وهو يضمها إليه بقوة وينظر نحو الأفق: لأنها أرض الحب، أرض العشاق، أرض جمعت الحب بين كثير من مشاهير العالم وبدؤا حياتهم من هناك من أرض الحب.
فابتعدت قليلًا وقالت بحماس: إذن إلى أرض الحب.
وتعانقا مجددًا ثم ابتعد قليلًا وأخرج من جيبه نفس نوع تلك زهرة وقدمها لها ثم جلسا معًا وسط الحديقة والأزهار الرائعة، وبعدها بأيام تزوجا وذهبا ليبدءا حياتهما من أرض الحب.
تمت،
تحياتي،
التعليقات مغلقة الان