هوجة السعى لتشكيل تحالفات سياسية أشعرت البسطاء أن مصر على أعتاب كيانات حزبية قوية، لكن الخبثاء فهموا من البداية أن أمامها سلسلة من العقبات، من الصعوبة تجاوزها، لأن بعضها له علاقة بالأشخاص الذين يدفعون نحوها، حيث تحولت المسألة إلى ستار للبحث عن دور، أكثر من وسيلة لخدمة الوطن.
النتيجة التى وصلت إليها غالبية المحاولات تنذر بالفشل الذريع. وقد يكون هذا الحكم متعجلا فى نظر البعض، أو يرد آخرون أن ما يجرى مجرد مشاورات، وبالتالى من الخطأ القطع بفشل التحالفات قبل أن تظهر للنور. لكن على طريقة المثل القائل «الجواب يبان من عنوانه» أميل إلى الاقتناع أن الجهود التى بذلها عدد من السياسيين لن تسفر عن كيان واحد قوي، يستطيع خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، ومعه كتلة حزبية متماسكة، تكون لها فرصة حقيقية فى حصد نسبة كبيرة من مقاعد مجلس النواب القادم. وهناك عدة أسباب عملية تعزز هذا الكلام. أهمها، إعلاء البعد الشخصي، حيث نجد أن الأسماء التى ظهرت على السطح لقيادة دفة التحالفات، ربما تكون كبيرة سياسيا، ولها بصمات فى المناصب التى شغلتها خلال الفترة الماضية، غير أنها تظل بعيدة عن الناس، وأى تشكيل سياسى ينبع من القمة ويبتعد عن القواعد العريضة لن تكون له فائدة عظيمة، لأنه سيظل معلقاً فى الهواء، ومقصورا عند حدود الكلام .
النخبة التى تتصدر المشهد، تبدو فى نظر كثيرين تبحث عن مكانة سياسية لائقة. وبصرف النظر عن صحة هذا الاستنتاج من خطئه، فالرسالة التى وصلت إلى الناس تقول ذلك، وأى جهود لن تفلح فى تبديدها، فقد رسخ فى وجدان قطاع كبير منهم، أن التحالفات تخدم أغراضا سياسية لدى الداعين إليها والعاملين من أجلها. كما أن الخلافات، وربما الصراعات، التى نشبت بين عدد ممن يدفعون باتجاه تكوين كتل انتخابية متعددة، تؤكد أن الحسابات الشخصية متضخمة بصورة تفوق نظيرتها الحزبية. وإذا كانت هذه الأمراض طفت مبكرا، فما بالنا عندما يأخذ هذا التكتل أو ذاك طريقه إلى حيز التنفيذ؟
الجواب ليس فى حاجة إلى تفاصيل. فالسوس الذى بدأت علاماته تظهر على جسد بعض الكيانات المقترحة، كفيل بأن يخرب أى كتلة حزبية سريعا. كما أن تجارب الماضى الفاشلة علمتنا أن مصر لا تجدى معها التحالفات أو حتى تفاهمات. فمنذ تجربة الجبهة الوطنية للتغيير فى أواخر عهد حسنى مبارك، وحتى جبهة الإنقاذ قبيل سقوط نظام محمد مرسي، والقوى الحزبية تدور فى حلقة مفرغة، ما أن تقترب مجموعة منها إلى التنسيق والتعاون والتوافق حول أهداف محددة إلا وتبتعد مرة أخرى عنها، وتتفرغ للخلافات، وكل طرف يحاول إلقاء المسئولية على الآخرين. لذلك لم يعش لنا أى تحالف، كبيراً كان أو صغيراً. كما أن تجارب الماضى خلال حقبتى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، تعزز الفشل الذى يلوح فى الأفق حالياً، وتؤكد أنه أصبح عادة مصرية بامتياز. فلم يستمر تحالف سياسى انتخابى مدة أكثر من تحقيق هدفه المعلن قصير الأجل. بمعنى إذا كان الهدف » شو سياسى » وتحقق مات التحالف. أما إذا كان غرضا انتخابيا عند أصحابه، فغالباً ينهار قبل أن يتبلور فعلياً تحت قبة البرلمان.
اليوم يسعى كثيرون، شرفاء وغير شرفاء، إلى الاستفادة من الأجواء السياسية الغامضة ومحاولة طرح أنفسهم باعتبارهم قيادات حزبية تستطيع أن تقود الأمور فى مرحلة بالغة الحساسية. لكن العلامات والإشارات والبشارات لا تطمئن على الإطلاق. وتحولت المسألة إلى مزاد من يستطيع فيه جمع أكبر عدد من الأحزاب؟ ومن الذى سيتمكن من استقطاب أكبر عدد من الأسماء؟ وهكذا لم تنجح حتى الآن أى قيادة فى تقديم فكرة جامعة، يلتف حولها تحالف لهدف وطنى واحد.
النتيجة الظاهرة للعيان أن هناك أمراضاً مزمنة فى الحياة السياسية المصرية، من الضرورى علاجها قبل الاستغراق فى ملف التحالفات. أمراض تستوجب تشخيصها بدقة متناهية، دون قفز عليها أو تشبث بعلاج الأعراض فقط. وهذه الأمراض (العيوب) معظمها من النوع الفيروسى الذى ينخر فى الجسم، ونشعر به عندما يصل إلى مرحلة متأخرة يصعب علاجها من دون عملية جراحية. نعم نحن نحتاج إلى عمليات حتى نستأصل الأورام قبل أن تصل إلى المرحلة الخبيثة، التى يمكن أن تفضى إلى القضاء على عدد من الرموز، ثم يظهر جيل على قدر من الصحة والعافية السياسية، يتفهم طبيعة الأوضاع، ويدرك حقائقها على وجهها الصحيح. لكن هذه الخطوة سوف تكلفنا وقتاً طويلاً، فى زمن تمر فيه أمام أعيننا جملة كبيرة من التحديات. بالتالى ليس هناك مجال سوى أن نتعافى سياسيا وبسرعة. فالانتخابات البرلمانية على الأبواب ودخولها بالصورة التى تبدو عليها غالبية القوى الحزبية، قد يجعلنا نعض أصابع الندم، لأن المتربصين سوف يستغلون هذا الارتباك فى خلط أوراق بحاجة لمزيد من الترتيب.
الحاصل أننا نعيد اختراع العجلة مرة أخري، ونستغرق الوقت فى بدهيات، سبق لكثير من دول العالم أن حسموا أمرها، لكن لدينا من يصر على تكرار الأخطاء. فلا تحالفات قوية دون أحزاب قوية، أو على الأقل وطنية وليست شخصية. ولا تكتلات دون وضوح فى الرؤية، فما الذى يجمع الشامى مع المغربى كما يقولون؟ فقد سمعنا عن تنسيق بين قوى من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعرفنا أن هناك تفاهمات تتم فى الخفاء بين قوى دينية وأخرى «فلولية» (نسبة إلى الحزب الوطني). وكلها محاولات يصلح لها عنوان واحد » سمك لبن تمر هندى ». وهذه النوعية من العناوين، لا تصلح فى الطعام، فما بالنا فى السياسة؟
أعتقد أن المشرع الذى وضع قانون الانتخابات البرلمانية، كان أذكى من معظمنا، ولم يستجب للضغوط والابتزازات، لأنه يعرف أمراضنا جيداً، لذلك منح النسبة الأكثر للمقاعد الفردية، والأقل للقوائم النسبية، لمنح المرأة والشباب وذوى الاحتياجات الخاصة فرصتهم وفقاً للدستور. بالتالى على الأحزاب التى تفرغت للتراشقات والانشغال بتوجيه الضربات لتعديل قانون الانتخابات منح هذا الوقت الثمين للاقتراب من القواعد، ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، قبل أن يأتى يوم لا ينفع فيه ندم. ولنترك قضية التكتلات بمعناها الصحيح، حتى نصلح أولا من أنفسنا وأحزابنا، لأن الطريقة التى نشاهدها فى تكوين التحالفات تحمل فى أحشائها كل عوامل الفشل.
التعليقات مغلقة الان